للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وجابر بن حيّان، ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه، هذا مع تقطيع الوقت في حاجاته الضروريّة والشهوية، والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة والفرص بروق تأتلق، والأوطار في غرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق، ولقد قطن العامريّ الرّيّ خمس سنين جمعة، ودرس وأملى وصنّف وروى فما أخذ مسكويه عنه كلمة واحدة، ولا وعى مسألة، حتى كأنّه بينه وبينه سدّ، ولقد تجرّع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ بفمه حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كلّه. وبعد فهو ذكيّ حسن الشّعر نقيّ اللفظ، وإن بقي فعساه يتوسط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفه بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكدّ بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشّحّ بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل، وهذا هو الشقاء المصبوب على هامة من بلي به، والبلاء المعصوب بناصية من غلب عليه.

وأما عيسى بن عليّ، فله الذّرع الواسع والصّدر الرحيب في العبارة، حجّة في النقل والترجمة، والتصرّف في فنون اللغات، وضروب المعاني والعبارات، وقد تصفّح ما لم يتصفّح كثير من هذه الجماعة، وقلّب بخزائن الكبراء والسادات، وأعين بالعمر الطويل والفراغ المديد، ولكنّه مع هذا الفضل الكثير بخيل بكلمة واحدة، ونصيح على ورقة فارغة، لسودائه الغالبة عليه، ومزاجه المتشيّط بها.

وأمّا نظيف، فإنه متوسّط، لا يسفل عن أقلّهم حظّا ولا يعلو على أكثرهم نصيبا، ويده في الطب أطول، ولسانه في المجالس أجول، ومعه رفق وحذق في الجدل.

وأمّا يحيى بن عديّ، فإنّه كان شيخا ليّن العريكة فروقة «١» ، مشوّه الترجمة، رديء العبارة، لكنه كان متأتّيا «٢» في تخريج المختلفة وقد برع في مجلسه أكثر هذه الجماعة، ولم يكن يلوذ بالإلهيات، كان ينبهر فيها ويضلّ في بساطها، ويستعجم عليه ما جلّ، فضلا عما دقّ منها، وكان مبارك المجلس.

فقال: ما قصرت في وصف هذه الطائفة، وتقريب البغية التي كانت داخلة في نفسي منهم.

حدّثني عن مذاهبهم في النفس وما يقولون فيها، وإلى أين ينتهون من يقينهم بشأنها، وكيف ثقتهم ببقائها بعد فناء أبدانها؟

فقلت: علمت أنّي لا أجد ما أريد من حديث النفس عند أصحابنا الباقين، أعني أبا الوفاء عليّ بن يحيى السامريّ والصّيمري والقوهيّ والصوفيّ وغلام زحل

<<  <   >  >>