والصاغانيّ، وكذلك غيرهم أعني ابن عبدان وابن يعقوب وابن لالا وابن بكش وابن قوسين والحرّانيّ، لأن هؤلاء ليسوا يحرثون هذه الأرض، ولا يرقمون هذا البزّ ولا يجهّزون هذا المتاع ولا يتعاملون به، هذا ينظر في المرض والصحة والداء والدواء، وهذا يعتبر الشمس والقمر، وليس فيهم من يذكر كلمة في النفس والعقل والإله، حتى كأنّه محظور عليهم، أو قبيح عندهم.
وقلت: إنّ هؤلاء القوم- أعني الطائفة الأولى- متفقون في الاعتراف بأنها جوهر باق خالد، فأما اليقين فما الحكم به لهم، لأنهم لو كانوا على ذلك- أعني واجدين لليقين ذائقين لحلاوته- لما كدحوا للدنيا التي تزول عنهم ويزولون عنها مضطرّين، فلو أنهم كانوا على ثلج من النفس، ويقظة من العقل، واستبصار من القلب، وسكون من البرهان، لما تعجّلوا هذه اللّذّات المنقوصة، والأوطار الفاضحة، والشهوات الخسيسة، مع التّبعات الكثيرة والأوزار الثقيلة، ولا عجب فإنه إذا كانت الرّكاكة العائقة تمنع الإنسان من العدو والسّفر، ومن سرعة الخطو، لأن الحركة قد بطلت بالرّكاكة الداخلة عليه في أعضائه وآلاته، فأيّ عجب من أن تكون النفس التي استعبدتها الشهوات الغالبة، والعقيدة الرديئة، والأفعال القبيحة معوقة ممنوعة من الصعود إلى معانق الفلك ومخارف النجوم وعالم الرّوح ومقعد الصدق ومقام الأمن ومحلّ الكرامة ومراد الخلد وبلد الأبد ومعان السرمد.
قال: هذا كلام تامّ، وسأسألك بعد هذا عن النفس وما تحفظ عنهم فيها لكن تمّم لي ما كنّا فيه، كيف علم أبي سليمان بالنّجوم وأحكامها؟ قلت: لا يتجاوز التقويم. ثم قال: فما تقول في الأحكام؟ قلت: أنشدت منذ أيّام:
علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب حقّ لا ينال محال
وقلت أيضا: علم الأحكام لا يجوز في الحكمة أن يكون مدركا مكشوفا مخاطبا به معروفا، ولا يجوز أن يكون مقنوطا منه مطّرحا مجهولا، بل الحكمة توجب أن يتوسّط هذا الفنّ بين الإصابة والخطأ حتّى لا يستغنى عن اللّياذ بالله أبدا، ولا يقع اليأس من قبله أبدا، وعلى هذا سخّر الله الإنسان وقيّضه وخيّره بين الأمور وفوّضه، ومنع من الثقة والطمأنينة إلا في معرفته وتوحيده وتقديسه وتمجيده، والرجوع إليه، انظر إلى حديث الطب فإنّ هذه الصناعة توسّطت الصواب والخطأ، لتكون الحكمة سارية فيها، واللطف معهودا بها، لأن الطب كما يبرأ به العليل، قد يهلك معه العليل، فليس بسبب أن بعض المدبّرين بالطب هلك لا ينبغي أن ينظر في الطب، وليس بسبب أن بعض المرضى برأ بالطب وجب أن يعوّل عليه، انظر إلى هذا التوسط في هذه الحال ليكون التدبير الإلهيّ والأمر الرّبوبيّ نافذين في هذه الخلائق بوساطة ما