وزرى على المحقّ. قلت: أيّها الرجل، قولك هذا كان يسلّم لو كان الإنشاء والتحرير والبلاغة بائنة من صناعة الحساب والتحصيل والاستدراك وعمل الجماعة وعقد المؤامرة «١» . فأمّا وهي متّصلة بها وداخلة في جملتها ومشتملة عليها وحاوية لها، فكيف يطّرد حكمك وتسلم دعواك؟ ألا تعلم أن أعمال الدواوين التي ينفرد أصحابها فيها بعمل الحساب فقيرة إلى إنشاء الكتب في فنون ما يصفونه ويتعاطونه، بل لا سبيل لهم إلى العمل إلّا بعد تقدمة هذه الكتب التي مدارها على الإفهام البليغ والبيان المكشوف والاحتجاج الواضح، وذلك يوجد من الكاتب المنشئ الذي عبته وعضضته، وهذه الدواوين معروفة، والأعمال فيها موصوفة، وأنا أحصيها لك كي تعلم أنّك غالط وعن الصواب فيها منحرف:
فمنها ديوان الجيش، وديوان بيت المال، وديوان التوقيع والدار، وديوان الخاتم، وديوان الفضّ، وديوان النّقد والعيار ودور الضّرب، وديوان المظالم وديوان الشرطة والأحداث، هذا إلى توابع هذه الدواوين مثل باب العين والمؤامرات، وباب النوادر والتواريخ، وإدارة الكتب ومجالس الديوان وقبل وبعد، كما يلزم كاتب الحساب أن يعرف وجوه الأموال حتى إذا جباها وحصّلها عمل الحساب أعماله فيها، فلا يمكنه أن يجبي إلّا بالكتب البليغة والحجج اللازمة واللطائف المستعملة، ومن تلك الوجوه الفيء، وهو أرض العنوة وأرض الصلح وإحياء الأرض والقطائع والصفايا والمقاسمة والوضائع وجزية رؤوس أهل الذمّة وصدقات الإبل والبقر والغنم وأخماس الغنائم والمعادن والركاز والمال المدفون، وما يخرج من البحر وما يؤخذ من التجار إذا مرّوا بالعاشر واللّقطة والضالّة وميراث من لا وارث له ومال الصدقة، إلى غير ذلك من الأمور المحتاجة إلى المكاتبات البالغة على الرسوم المعتادة والعادات الجارية، كعهد ينشأ في إصلاح البريد وتقسيط الشرب، وكتاب في العمارة وإعادة ما نقصّ منها، وفي حرز الغلّة والدّياس، وفي الدّوالي والدواليب والغرّافات، وفي القلب والقسمة، وفي تقدير الخضر المبكّرة وفي المساحة وفي الطراز، وفي الجوالي، وفي قبض فرائض الصدقات، وفي افتتاح الخراجات، إلى غير ذلك من كتب المحاسبين.
فإن قلت:«هذا كلّه مستغنىّ عنه» كابرت وبهتّ، لأن مدار المال ودروره، وزيادته ووفوره على هذه الدواوين الّتي إما أن يكون حظّ البلاغة فيها أكثر، وإمّا أن يكون أثر الحساب فيها أظهر، وإما أن يتكافآ، فعلى جميع الأحوال لا يكون الكاتب كاملا، ولا لاسمه مستحقا، إلا بعد أن ينهض بهذه الأثقال، ويجمع إليها أصولا من الفقه مخلوطة بفروعها، وآيات من القرآن مضمومة إلى سعته فيها، وأخبارا كثيرة