مختلفة في فنون شتّى لتكون عدّة عند الحاجة إليها، مع الأمثال السائرة والأبيات النادرة، والفقر البديعة، والتجارب المعهودة، والمجالس المشهودة، مع خطّ كتبر مسبوك، ولفظ كوشي محوك، ولهذا عزّ الكامل في هذه الصناعة، حتى قال أصحابنا:
ما نظنّ أنّه اجتمع هذا كله إلّا لجعفر بن يحيى فإن كتابته كانت سواديّة، وبلاغته سحبانيّة، وسياسته يونانيّة، وآدابه عربية، وشمائله عراقيّة، أفلا ترى كيف غرق الحساب في غمار هذه الأبواب؟
ثم اعلم أن البليغ مستمل بلاغته من العقل، ومأخذه فيها من التمييز الصحيح، وليس كذلك الحساب في متناوله فلو ظنّ ظانّ بأن مدار الملك على الحساب- فهو صحيح- ولكن بعد بلاغة المنشئ، لأن السلطان يأمر وينهى ويلاطف ويخاطب ويحتجّ ويعنف ويوعد ويعد ويضمن ويمنّي ويعلّق الأمل ويؤكّد الرجاء ويحسم المادّة الضارّة ويذيق الرعيّة حلاوة العدل ويجنّبهم مرارة الجور، ثم يجبي، فإذا جبى احتاج إلى الحساب حتى يكون بالحاصل عالما، ثمّ يتقدّم بتوزيع ذلك على الحساب حتّى يكون من الغلط آمنا، فانظر إلى المنزلتين كيف اختلفتا؟ وكيف حصلت المزيّة لإحداهما، ولو أنصفت لعلمت أنّ الصناعة جامعة بين الأمرين، أعني الحساب والبلاغة، والإنسان لا يأتي إلى صناعة فيشقّها نصفين ويشرّف أحد النصفين على الآخر.
وأما قولك:«إحدى الصناعتين هزل والأخرى جدّ» فبئسما سوّلت لك نفسك على البلاغة، هي الجدّ، وهي الجامعة لثمرات العقل، لأنّها تحقّ الحقّ وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه، ثم تحقيق الباطل وإبطال الحقّ لأغراض تختلف، وأغراض تأتلف، وأمور لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشرّ، وإباء وإذعان، وطاعة وعصيان، وعدل وعدول «١» ، وكفر وإيمان، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة، وهذا هو حدّ العقل والآخر حدّ العمل.
وأما قولك:«الإنشاء صناعة مجهولة المبدإ، والحساب معروف المبدإ» فقد خرقت، لأنّ مبدأها من العقل، وممرّها على اللفظ، وقرارها في الخطّ، وأنت إذا قلت هذا دللت من نفسك على أنّه ليس لك ما تبصر به هذا المبدأ الشريف وهذا الأوّل اللطيف.
وأما قولك:«والبلاغة زخرفة وهي شبيهة بالسراب» فقد أوضحنا لك فيه ما كفى، فإن لم يكف فأنت محتاج إلى بيّنة أخرى.
وأما قولك:«إن أصحابها يسترقعون» فهذا شنع من القول، ولو عرفت الصّدق فيه لم تنبس به ولم تنطق بحرف منه، فإن فيه زراية على السلف الصالح والصدر