الأوّل، ولو وجب أن يسترقع البليغ إذا كان عاقلا، لوجب أن يستعقل العييّ إذا كان أحمق، وهذا خلف.
وأما قولك:«المنشئ والمعلّم والنحويّ إخوة في الركاكة» فما يتعلّم الناس إلّا من المعلّم والعالم والنحويّ وإن ندر منهم واحد قليل البضاعة من الحقّ.
وأما قولك:«إن المملكة تكتفي بمنشئ واحد» فقد صدقت، وذلك أن هذا الواحد في قوّته يفي بآحاد كثيرة، وهؤلاء الآحاد ليس في جميعهم وفاء بهذا الواحد، وهذا عليك لا لك. لكن بقي أن تفهم أنك محتاج إلى الأساكفة أكثر مما تحتاج إلى العطّارين، ولا يدلّ هذا على أنّ الإسكاف أشرف من العطّار، والعطّار دون الإسكاف، والأطبّاء أقلّ من الخيّاطين، ونحن إليهم أحوج، ولا يدلّ على أنّ الطبيب دون الخيّاط.
وأمّا قولك:«ما زال الناس يحثّون أولادهم على تعلّم الحساب ويقولون: هو سلّة الخبز» فهو كما قلت، لأنّ الحاجة إليه عامّة للكبار والصغار، وأشرف الصناعات يحتاج إليها أشرف الناس، وأشرف الناس الملك، فهو محتاج إلى البليغ والمنشئ والمحرّر، لأنّه لسانه الّذي به ينطق، وعينه الّتي بها يبصر، وعيبته الّتي منها يستخرج الرأي ويستبصر في الأمر، ولأنّه بهذه الخاصّة لا يجوز أن يكون له شريك، لأنّه حامل الأسرار، والمحدّث بالمكنونات، والمفضى إليه ببنات الصدور.
وأما قولك:«من عبّر عما في نفسه بلفظ ملحون أو محرّف وأفهم غيره فقد كفى» فكيف يصحّ هذا الحكم ويقبل هذا الرأي؟ والكلام يتغيّر المراد فيه باختلاف الإعراب، كما يتغيّر الحكم فيه باختلاف الأسماء، وكما يتغيّر المفهوم باختلاف الأفعال، وكما ينقلب المعنى باختلاف الحروف، ولقد قال رجل بالرّيّ كان نبيلا في حاله جليلا في مرتبته عظيما عند نفسه:«اقعد حتّى تتغدّى بنا» وهو يريد: «حتى تتغدّى معنا» ، فانظر إلى هذا المحال الّذي ركبه بلفظه وإلى المراد الذي جانبه بجهله، ولهذا نظائر غير خافية عليك ولا ساقطة دونك وكفى بالبلاغة شرفا أنّك لم تستطع تهجينها إلّا بالبلاغة، ولم تهتد إلى الكلام عليها إلّا بقوّتها، فانظر كيف وجدت في استقلالها بنفسها ما يقلّها ويقلّ غيرها، وهذا أمر بديع وشأن عجيب.
وأمّا قولك:«ومن آفاتها أنّ أصحابها يقرفون بالريبة وينالون بالعيب» فهذا ما لا يستحقّ الجواب، وما يضرّ الشمس نباح الكلاب، وصيانة اللّسان عن هذا النوع أحسن، قال الله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً
[الفرقان: ٦٣] ، وقال عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-: لو كان المرء أقوم من قدح لوجد له غامز. وآل ابن وهب وابن ثوابة كانوا أنبل وأفضل وأعقل من أن يظنّ بهمّ ما لا يظنّ بخساس