حال أبناء الدنيا الذين يشهرون في طلبها السيوف الحداد، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشّداد فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذة وفي طلب الراحة.
وصنف عقولهم مضيئة بما فاء عليها من عند الله تعالى باللطف الخفيّ، والاصطفاء السنيّ، والاجتباء الزكي، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة، فتراهم حضورا وهم غيب، وأشياعا وهم متباينون.
وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ.
وهذا كما تقول:«الملوك ساسة، ولكل واحد منهم خاصة» ، وكما يقولون:
«هؤلاء شعراء ولكلّ واحد منهم بحر» ، «وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب» وكما تقول: «علماء ولكلّ واحد منهم مذهب» .
وعلى هذا أبو سليمان- حفظه الله- إذا أخذ في هذا الطريق أطرب، لسعة صدره بالحكمة، وفيض صوبه من المعرفة، وصحة طبيعته بالفطرة.
وقال: إنّا بعد هذا المجلس تركنا صنفا لم نرسمه بالذكر، ولم نعرض له بالاستيفاء، وهم الهمج الرّعاع الذين إن قلت:«لا عقول لهم» كنت صادقا، وإن قلت:«لهم أشياء شبيهة بالعقول» كنت صادقا، إلا أنهم في العدد، من جهة النسبة العنصريّة والجبلّة الطينيّة والفطرة الإنسيّة، وفي كونهم في هذه الدار عمارة لها ومصالح لأهلها، ولذلك قال بعض الحكماء:«لا تسبوا الغوغاء فإنهم يخرجون الغريق ويطفئون الحريق ويؤنسون الطريق ويشهدون السّوق» .
فضحك- أضحك الله ثغره، وأطال عمره، وأصلح شأنه وأمره- فقال: قد جرى في حديث النفس أكثر مما كان في النفس، وفيه بلاغ إلى وقت، وأظن الليل قد تمطّى بصلبه، وناء بكلكله «١» . وانصرفت.