بالعشق الغالب، فإنه لا يخفى عليه الفرق بين النفس المحرّكة للبدن، وبين البدن المتحرّك بالنفس.
قال: ولمّا عرضت الشبهة لقوم قصر نظرهم، ولم يكن لهم لحظ ولا اطّلاع فظنّوا أنّ الرباط الّذي بين النفس والبدن إذا انحلّ فقد بطلا جميعا.
وهذا ظنّ فيه عسف، لأنّهما لم يكونا في حال الإرتباط على شكل واحد وصورة واحدة، أعني أنّهما تباينا في تصاحبهما وتصاحبا في تباينهما.
ألا ترى أنّ البدن كان قوامه ونظامه وتمامه بالنفس؟ هذا ظاهر.
وليس هذا حكم النّفس في شأنها مع البدن، لأنّها واصلته في الأوّل عند مسقط النطفة، فما زالت تربّيه وتغذّيه وتحييه وتسوّيه حتّى بلغ البدن إلى ما ترى، ووجد الإنسان بها، لأنّ النفس وحدها ليست بإنسان، والبدن وحده ليس بإنسان، بل الإنسان بهما إنسان، فإذا الإنسان نصيبه من النفس أكثر من نصيبه من البدن.
وهذه الكثرة توجد في الأوّل من ناحية شرف النفس في جوهرها، وتوجد في الثاني من جهة صاحب النفس الذي هو الإنسان بما يستفيده من المعارف الصحيحة، يضمّه إلى الأفعال الواجبة الصالحة، فأمر المعارف الصحيحة معرفة الله الواحد الحقّ باليقين الخالص، وأمر الأفعال الواجبة الصالحة العبادة له والرضوان عنه.
وغاية المعرفة الاتّصال بالمعروف، وغاية الأفعال الواجبة الفوز بالنعيم والخلود في جوار الله، وهذا هو الصّراط المستقيم الذي دعا إلى الجواز عليه كلّ من رجع إلى بصيرة وآوى إلى حسن سيرة.
فأمّا من هو عن هذا كلّه عم، وعمّا يجب عليه ساه، فهو في قطيع النّعم، وإن كان متقلّبا في أصناف النّعم.
وكان يقول كثيرا: الناس أصناف في عقولهم: فصنف عقولهم مغمورة بشهواتهم، فهم لا يبصرون بها إلّا حظوظهم المعجّلة، فلذلك يكدّون في طلبها ونيلها، ويستعينون بكلّ وسع وطاقة على الظّفر.
وصنف عقولهم منتبهة، لكنّها مخلوطة بسبات الجهل، فهم يحرّضون على الخير واكتسابه، ويخطئون كثيرا، وذلك أنّهم لم يكملوا في جبلّتهم الأولى وهذا نعت موجود في العبّاد الجهلة والعلماء الفجرة، كما أنّ النّعت الأوّل موجود في طالبي الدّنيا بكل حيلة ومحالة.
وصنف عقولهم ذكيّة ملتهبة، لكنّها عمية عن الآجلة، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة والوصايا اللّطيفة والسّمعة الرّبانيّة، وهذا نعت موجود في العلماء الّذين لم تثلج صدورهم بالعلم، ولا حقّ عندهم الحقّ اليقين، وقصّروا عن