وقال: إن كانت النفس بها قوى وحياة الجسد، فيمتنع أن يكون قوامها بالجسد، بل بذاتها التي قامت بها حياة الجسد.
وقال: إن كانت النفس قائمة بذاتها التي قامت بها حياة الجسد، فما كان قائما بذاته فهو جوهر، فالنفس إذا جوهر.
وقد أملى علينا أبو سليمان كلاما في حديث النفس هذا موضعه، ولا عذر في الإمساك عن ذكره ليكون مضموما إلى غيره، وإن كان كلّ هذا لم يجر على وجهه بحضرة الوزير- أبقاه الله ومد في عمره- لكن الخوض في الشيء بالقلم مخالف للإضافة باللسان، لأن القلم أطول عنانا من اللسان، وإفضاء اللّسان أحرج من إفضاء القلم، والغرض كلّه الإفادة، فليس يكثر الطويل.
قال: ينبغي أن نعرف باليقظة التامّة أن فينا شيئا ليس بجسم له مدّات ثلاث:
أعني الطول والعرض والسّمك، ولا يجزّأ من جسم ولا عرض من الأعراض، ولا حاجة به إلى قوّة جسميّة، لكنّه جوهر مبسوط غير مدرك بحسّ من الإحساس. ولمّا وجدنا فينا شيئا غير الجسم وضدّ أجزائه بحدته وخاصّته، ورأينا له أحوالا تباين أحوال الجسم حتّى لا تشارك في شيء منها وكذلك وجدنا مباينته للأعراض، ثم رأينا منه هذه المباينة للأجسام والأعراض إنّما هي من حيث كانت الأجسام أجساما والأعراض أعراضا، قضينا أنّ هاهنا شيئا ليس بجسم ولا جزء من الجسم، ولا هو عرض، ولذلك لا يقبل التغيّر ولا الحيلولة، ووجدنا هذا الشيء أيضا يطّلع على جميع الأشياء بالسواء ولا يناله فتور ولا ملال، ويتضح هذا بشيء أقوله: كلّ جسم له صورة فإنّه لا يقبل صورة أخرى من جنس صورته الأولى البتة إلّا بعد مفارقته الصورة الأولى، مثل ذلك أنّ الجسم إذا قبل صورة أو شكلا كالتثليث، فليس يقبل شكلا آخر من التربيع والتدوير إلّا بعد مفارقة الشكل الأول. وكذلك إذا قبل نقشا أو مثالا فهذا حاله، وإن بقي فيه من رسم الصّورة الأولى شيء لا يقبل الصورة الأخرى على النظم الصحيح، بل تنقش فيه الصورتان، ولا تتمّ واحدة منهما، وهذا يطّرد في الشّمع وفي الفضة وغيرها إذا قبل صورة نقش في الخاتم، ونحن نجد النفس تقبل الصور كلّها على التمام والنظام من غير نقص ولا عجز، وهذه الخاصّة ضدّ لخاصّة الجسم، ولهذا يزداد الإنسان بصيرة كلّما نظر وبحث وارتأى وكشف.
ويتضح أيضا عن كثب أن النفس ليست بعرض، لأنّ العرض لا يوجد إلّا في غيره، فهو محمول لا حامل وليس هو قواما، وهذا الجوهر الموصوف بهذه الصفات هو الحامل لما لها أن تحمل، وليس له شبه من الجسم ولا من العرض.
وكان يقول: إذا صدق النظر، وكان الناظر عاريا من الهوى، وصحّ طلبه للحق