قلت: قال لنا أبو سليمان: كلّ ما جهل سببه من ناحية الحسّ بالعادة، ومن ناحية الطبيعة بالإمكان، ومن ناحية النفس بالتهيئة، ومن ناحية العقل بالتّجويز، ومن ناحية الإله بالتّوفيق فهو معجوب منه، معجوز عنه، مسلّم لمن له القدرة المحيطة، والمشيئة النافذة، والحكمة البالغة، والإحسان السابق.
ولقد حكى أبو الحسن الفرضيّ في أمر الاتفاق شيئا ظريفا عن بعض إخوانه قال: خرجنا إلى بعض المتنزّهات ومعنا جرّ نصيد به السّمانى، وكنّا جماعة، فقال حدث كان معنا- وكان أصغرنا سنّا-: أنتم تصيدون بجرّ «١» ، وأنا أصيد بيدي، يقول ذلك على جهة المزح، فرمى بعد قليل فاتّفق له أن أثار سمانى، فأسرع إليه ونحن لا نعلم أنّه أخذ شيئا، فقلنا له على طريق العبث: احذر الخنزير- من غير أن نكون رأينا خنزيرا- فالتفت فزعا وفرّ مولّيا، فاتّفق له أن رأى خنزيرا منه غير بعيد، فأقبل إلينا مسرعا هاربا من الخنزير والسّماني بيده وقد صاده.
وكنت في البادية في صفر سنة أربع وخمسين منصرفا من الحج ومعي جماعة من الصّوفية، فلحقنا جهد من عوز القوت وتعذّر ما يمسك الرّوح في حديث طويل- إلا أنّا وصلنا من زبالة «٢» - بالحيلة اللّطيفة منّا، والصّنع الجميل من الله تعالى- إلى شيء من الدقيق، فانتعشت أنفسنا به، وغنمناه، ورأيناه نفحة من نفحات الله تعالى الكريم، فجعلناه زادنا، وسرنا، فلما بلغنا المنزل قعدنا لنمارس ذلك الدقيق، ولقطنا البعر ودقاق الحطب، فلما أجمعنا على العجن والملك «٣» لم نجد الحراق- وكان عندنا أنّه معنا، وأنّنا قد استظهرناه- فدخلتنا حيرة شديدة، وركبنا غمّ غالب، وسففنا من ذلك الدقيق شيئا، فما ساغ ولا قبلته الطبيعة، وبتنا ليلتنا طاوين ساهرين، قد علانا الكمد، وملكنا الوجوم والأسف، فقال بعضنا: هذا لمّا وجدنا الدقيق؟! وأصبحنا وركبنا قد استرخت، وعيوننا غارت، وأحدنا لا يحدّث صاحبه غمّا وكربا. وعدنا إلى ما كنّا فيه قبل بزيادة حسرة من النّظر إلى الدقيق، وقال صاحب لنا: نرمي بجراب الدّقيق حتّى نلقي حمله وثقله في طول هذا الطريق، فقلنا: ليس هذا بصواب، وما يضرّنا أن يكون معنا، فلعلّنا أن نرى ركبا أو نلقى حطبا. وكانت البادية خالية في ذلك الوقت، لرعب لحق قوما من بني كلاب من جهة أعدائهم، فلم يكن يجتاز بها في ذلك الوقت غريب. وبقينا كذلك إلى اليوم الثّالث، ونحن نلاحق ونجاهد في المشي،