فلمّا كان العصر من ذلك اليوم كنت أسير أمام القوم أجرّئهم وأسألهم، وكنت كالحاطب لهم:«إذا عثرنا بحراق وظفرنا بفتيلة» ، فوجدوا خرقة ملفوفة فيها حراق، فهللوا وكبّروا، ورفعوا أصواتهم، فقلت كالمتعجّب: ما الخبر؟ قالوا: البشرى، قلت: وما ذاك؟ قالوا: هذه خرقة ملئت حراقا، فلا تسل عمّا دهانا من الفرح والاستبشار، وثاب إلينا من السّرور والارتياح، وزال عنّا من الانخذال والانكسار، وقعدنا في مكاننا ذلك، ولقطنا البعر، وأثرنا الوقود، وأجّجنا نارا عظيمة، وملكنا الدّقيق كلّه ملكة واحدة وكان أربعين رطلا، وكان ذلك بلاغنا إلى القادسيّة، فلما دنونا منها تلقّانا بشر من أهلها، وقالوا لنا: كيف سلمتم في هذه الطريق مع العوز والخوف؟ فقلنا: لطف الله يقرّب كلّ بعيد، ويسهّل كلّ شديد، ويصنع للضعيف حتّى يتعجّب القويّ.
وليس أحد من خلق الله يجحد هذا القول، وينكر هذا الفضل، ويرجع إلى دين وثيق أو واه إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
[البقرة: ٢٤٣] .
وحدّثني أبو الحسن عليّ بن هارون الزّنجانيّ القاضي صاحب المذهب قال:
اصطحب رجلان في بعض الطّرق مسافرين: مجوسيّ من أهل الرّيّ، والآخر يهوديّ من أرض جيّ «١» ، وكان المجوسيّ راكبا بغلة له عليها سفرة من الزّاد والنفقة وغير ذلك، وهو يسير مرفّها وادعا، واليهوديّ يمشي بلا زاد ولا نفقة، فبينا هما يتحادثان إذ قال المجوسيّ لليهوديّ: ما مذهبك وعقيدتك يا فلان؟ قال اليهوديّ: أعتقد أنّ في هذه السماء إلها هو إلّه بني إسرائيل، وأنا أعبده وأقدّسه وأضرع إليه، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل، مع صحّة البدن، والسّلامة من كلّ آفة، والنّصرة على عدوّي، وأسأله الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، فلا أعبأ بمن يخالفني، بل أعتقد أنّ من يخالفني دمه لي يحلّ، وحرام عليّ نصرته ونصيحته والرحمة به. ثم قال للمجوسيّ: قد أخبرتك بمذهبي وعقيدتي وما اشتمل عليه ضميري، فخبّرني أنت أيضا عن شأنك وعقيدتك وما تدين به ربّك؟ فقال المجوسيّ:
أمّا عقيدتي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي وأبناء جنسي، ولا أريد لأحد من عباد الله سوءا، ولا أتمنّى له ضرّا، لا لموافقي، ولا لمخالفي. فقال اليهوديّ: وإن ظلمك وتعدّى عليك؟ قال: نعم، لأني أعلم أنّ في هذه السماء إلها خبيرا عالما حكيما لا تخفى عليه خافية من شيء، وهو يجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. فقال اليهوديّ: يا فلان، لست أراك تنصر مذهبك وتحقّق رأيك. قال المجوسيّ: كيف ذاك؟ قال: لأني من أبناء جنسك، وبشر مثلك، وتراني أمشي جائعا نصبا مجهودا، وأنت راكب وادع مرفّه شبعان. فقال: صدقت، وماذا تبغي؟ قال:
أطعمني من زادك، واحملني ساعة، فقد كللت وضعفت. قال: نعم وكرامة. فنزل