ومدّ من سفرته وأطعمه وأشبعه، ثم أركبه، ومشى ساعة يحدّثه، فلمّا ملك اليهوديّ البغلة وعلم أنّ المجوسيّ قد أعيا، حرّك البغلة وسبقه، وجعل المجوسيّ يمشي ولا يلحقه، فناداه: يا فلان، قف لي وانزل، فقد انحسرت وانبهرت. فقال اليهوديّ: ألم أخبّرك عن مذهبي وخبّرتني عن مذهبك، ونصرته وحقّقته؟ فأنا أريد أيضا أن أحقّق مذهبي وأنصر رأي واعتقادي. وجعل يحرّك البغلة، والمجوسيّ يقفوه على ظلع وينادي: قف يا هذا واحملني، ولا تتركني في هذا الموضع فيأكلني السّبع وأموت ضياعا، وارحمني كما رحمتك. واليهوديّ لا يلوي على ندائه واستغاثته، حتّى غاب عن بصره، فلمّا يئس المجوسيّ منه وأشفى على الهلكة، ذكر اعتقاده وما وصف به ربّه، فرفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي قد علمت أني اعتقدت مذهبا ونصرته، ووصفتك بما أنت أهله، وقد سمعت وعلمت، فحقّق عند هذا الباغي عليّ ما مجّدتك به، ليعلم حقيقة ما قلت. فما مشى المجوسيّ إلّا قليلا حتّى رأى اليهوديّ وقد رمت به البغلة، واندقّت عنقه، وهي واقفة ناحية منه تنتظر صاحبها، فلمّا أدرك المجوسيّ بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهوديّ معالجا لكرب الموت، فناداه اليهوديّ: يا فلان، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البريّة أهلك جوعا وعطشا، وانصر مذهبك، وحقّق اعتقادك. قال المجوسيّ: قد فعلت ذلك مرّتين، ولكنّك لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفت. فقال اليهوديّ: وكيف ذلك؟ قال: لأني وصفت لك مذهبي في قولي، حتّى حقّقته بفعلي، وذاك أني قلت: إن في هذه السماء إلها خبيرا عادلا لا يخفى عليه شيء، وهو وليّ جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قال اليهوديّ: قد فهمت ما قلت، وعلمت ما وصفت. قال المجوسيّ: فما الذي منعك من أن تتّعظ بما سمعت؟ قال اليهوديّ: اعتقاد نشأت عليه، ومذهب تربّيت به، وصار مألوفا معتادا كالجبلّة بطول الدّأب فيه، واستعمال أبنيته، اقتداء بالآباء والأجداد والمعلّمين من أهل ديني ومن أهل مذهبي، وقد صار ذلك كالأسّ الثابت، والأصل النابت، ويصعب ما هذا وصفه أن يترك ويرفض ويزال. فرحمه المجوسيّ، وحمله معه حتّى وافى المدينة، وسلّمه إلى أوليائه محطّما موجعا، وحدّث الناس بحديثه وقصّته، فكانوا يتعجّبون من شأنهما زمانا طويلا.
وقال بعض النّاس للمجوسيّ بعد: كيف رحمته بعد خيانته لك، وبعد إحسانك إليه؟ قال المجوسيّ: اعتذر بحاله التي نشأ فيها، ودأب عمره في اعتقادها، وسعى لها واعتادها، وعلمت أنّ هذا شديد الزّوال عنه، وصدّقته ورحمته، وهذا مني شكر على صنع الله بي حين دعوته عندما دهاني منه، وبالرّحمة الأولى أعانني ربي، وبالرّحمة الثانية شكرته على ما صنع بي.
هذا كلّه سردناه لسبب الأمر الذي يبدو من غير جنان، والعارض الذي يبرز من غير توهّم.