غرّ، وقريب العهد بالكون، وجاهل بالحال، وعار من التّجربة، كذلك الرّعيّة الشبيهة بالولد، وكذلك الملك الشبيه بالوالد، ومما يزيد هذا المعنى كشفا، ويكسبه لطفا، أنّ الملك لا يكون ملكا إلّا بالرّعيّة، كما أنّ الرّعيّة لا تكون رعيّة إلا بالملك، وهذا من الأحوال المتضايفة، والأسماء المتناصفة، وبسبب هذه العلاقة المحكمة والوصلة الوشيجة، ما لهجت العامّة بتعرّف حال سائسها، والناظر في أمرها، والمالك لزمامها، حتى تكون على بيان من رفاهة عيشها، وطيب حياتها، ودرور مواردها، بالأمن الفاشي بينها، والعدل الفائض عليها، والخير المجلوب إليها، وهذا أمر جار على نظام الطبيعة، ومندوب إليه أيضا في أحكام الشريعة.
قال: ولو قالت الرّعيّة لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث عن غيب أمرك، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك؟ ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلّقة بك، وخيراتنا متوقّعة من جهتك، ومسرّتنا ملحوظة بتدبيرك، ومساءتنا مصروفة باهتمامك، وتظلّمنا مرفوع بعزّك، ورفاهيتنا حاصلة بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك وبليغ اجتهادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟ أما كان عليه أن يعلم أنّ الرّعيّة مصيبة في دعواها الّتي بها استطالت، بلى والله، الحقّ معترف به وإن شغب الشاغب، وأعنت المعنت.
قال: ولو قالت الرّعية أيضا: ولم لا تبحث عن أمرك؟ ولم لا تسمع كلّ غثّ وسمين منّا! وقد ملكت نواصينا، وسكنت ديارنا، وصادرتنا على أموالنا، وحلت بيننا وبين ضياعنا، وقاسمتنا مواريثنا، وأنسيتنا رفاغة «١» العيش، وطيب الحياة، وطمأنينة القلب، فطرقنا مخوفة، ومساكننا منزولة، وضياعنا مقطعة، ونعمنا مسلوبة، وحريمنا مستباح، ونقدنا زائف، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيّئة، وجنديّنا متغطرس، وشرطيّنا منحرف، ومساجدنا خربة، ووقوفها منتهبة، ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة، وعيوننا سخينة، وصدورنا مغيظة، وبليّتنا متّصلة، وفرحنا معدوم. ما كان الجواب أيضا عمّا قالت وعمّا لم تقل، هيبة لك، وخوفا على أنفسها من سطوتك وصولتك؟
وحكى لنا في عرض هذا الكلام أنّه رفع إلى الخليفة المعتضد أنّ طائفة من النّاس يجتمعون بباب الطاق ويجلسون في دكّان شيخ تبّان، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنون من الأحاديث، وفيهم قوم سراة وتنّاء «٢» وأهل بيوتات سوى من يسترق السّمع منهم من خاصّة الناس، وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم، فلمّا عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعا، وحرج صدرا، وامتلأ غيظا، ودعا بعبيد الله بن سليمان، ورمى بالرّفيعة «٣» إليه، وقال:
انظر فيها وتفهّمها. ففعل، وشاهد من تربّد وجه المعتضد ما أزعج ساكن صدره، وشرّد