آلف صبره، وقال: قد فهمت يا أمير المؤمنين. قال: فما الدّواء؟ قال: تتقدّم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإنّ العقوبة إذا اختلفت، كان الهول أشدّ، والهيبة أفشا، والزّجر أنجع، والعامّة أخوف.
فقال المعتضد- وكان أعقل من الوزير-: والله لقد برّدت لهيب غضبي بفورتك هذه، ونقلتني إلى اللّين بعد الغلظة، وحططت عليّ الرّفق، من حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنّك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك، ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النّصيحة والنّظر للرّعيّة الضّعيفة الجاهلة أن تسألني الكفّ عن الجهل، وتبعثني على الحلم، وتحبّب إليّ الصّفح وترغّبني في فضل الإغضاء على هذه الاشياء. وقد ساءني جهلك بحدود العقاب وبما تقابل به هذه الجرائر، وبما يكون كفأ للذّنوب، ولقد عصيت الله بهذا الرّأي ودللت على قسوة القلب وقلّة الرّحمة ويبس الطّينة ورقّة الدّيانة، أما تعلم أن الرّعيّة وديعة الله عند سلطانها؟ وأنّ الله يسائله عنها كيف سستها؟ ولعلّه لا يسألها، وإن سألها فليؤكّد الحجّة عليه منها، ألا تدري أنّ أحدا من الرّعيّة لا يقول ما يقول إلّا لظلم لحقه أو لحق جاره، وداهية نالته أو نالت صاحبا له؟ وكيف نقول لهم: كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم، غير خائضين في حديثنا، ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا، وأكل خضرتنا. وحنق المملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل السّيّد على صروف تكاليفه، ومكاره تصاريفه، إذا كان العيش في كنفه رافغا، والأمل فيه قويّا، والصّدر عليه باردا، والقلب معه ساكنا، أتظنّ أن العمل بالجهل ينفع، والعذر به يسمع، لا والله ما الرأي ما رأيت، ولا الصّواب ما ذكرت، وجّه صاحبك وليكن ذا خبرة ورفق، ومعروفا بخير وصدق، حتّى يعرف حال هذه الطائفة، ويقف على شأن كل واحد منها في معاشه، وقدر ما هو متقلّب فيه ومنقلب إليه، فمن كان منهم يصلح للعمل فعلّقه به، ومن كان سيّئ الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيده طمأنينة باله، ومن لم يكن من هذا الرّهط، وهو غنيّ مكفيّ، وإنما يخرجه إلى دكّان هذا التّبّان البطر والزهو، فادع به، وانصحه، ولاطفه، وقل له: إنّ لفظك مسموع، وكلامك مرفوع، ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلّا في عرصة المقابر، فاستأنف لنفسك سيرة تسلم بها من سلطانك، وتحمد عليها عند إخوانك، وإيّاك أن تجعل نفسك عظة لغيرك بعدما كان غيرك عظة لك، ولولا أنّ الأخذ بالجريرة الأولى مخالف للسّيرة المثلى، لكان هذا الّذي تسمعه ما تراه، وما تراه تودّ أنك لو سمعته قبل أن تراه. فإنّك يا عبيد الله إذا فعلت ذلك فقد بالغت في العقوبة، وملكت طرفي المصلحة، وقمت على سواء السّياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة.