قال: وفارق الوزير حضرة الخليفة، وعمل بما أمر به على الوجه اللّطيف، فعادت الحال ترفّ بالسّلامة العامّة، والعافية التامّة، فتقدّم إلى الشّيخ التّبّان برفع حال من يقعد عنده حتّى يواسى إن كان محتاجا، ويصرّف إن كان متعطّلا، وينصح إن كان متعقّلا.
فقال الوزير: ما سمعت مثل هذا قطّ، وما ظننت أن الخطب في مثل هذا يبلغ هذا القدر، فهات الجواب الآخر الّذي حفظته عن الصّوفيّ.
فقلت: إن كان هذا كافيا فإنّ ذلك فضل.
فقال: هكذا هو، وإنّ فيما مرّ لكفاية، وما يزيد على الكفاية، ولكنّ الزّيادة من العلم داعية إلى الزيادة من العمل، والزّيادة من العمل جالبة الانتفاع بالعلم، والانتفاع بالعلم دليل على سعادة الإنسان، وسعادة الإنسان مقسومة على اقتباس العلم والتماس العمل، حتّى يكون بأحدهما زارعا، وبالآخر حاصدا، وبأحدهما تاجرا، وبالآخر رابحا.
فوصلت الحديث وقلت: حدّثني شيخ من الصّوفيّة في هذه الأيّام قال: كنت بنيسابور سنة سبعين وثلاثمائة، وقد اشتعلت خراسان بالفتنة، وتبلبلت دولة آل سامان بالجور وطول المدّة، فلجأ محمّد بن إبراهيم صاحب الجيش إلى قايين، وهي حصنه ومعقله، وورد أبو العبّاس صاحب جيش آل سامان نيسابور بعدّة عظيمة، وعدّة عميمة، وزينة فاخرة، وهيئة باهرة، وغلا السّعر وأخيفت السّبل، وكثر الإرجاف، وساءت الظّنون، وضجّت العامّة، والتقس الرأي، وانقطع الأمل، ونبح كلب كلب من كلّ زاوية، وزأر كلّ أسد من كلّ أجمة، وضبح كلّ ثعلب من كلّ تلعة.
قال: وكنّا جماعة غرباء نأوي إلى دويرة الصّوفيّة لا نبرحها، فتارة نقرأ، وتارة نصلّي، وتارة ننام، وتارة نهذي، والجوع يعمل عمله، ونخوض في حديث آل سامان، والوارد من جهتهم إلى هذا المكان، ولا قدرة لنا على السّياحة لانسداد الطّرق، وتخطّف الناس للناس، وشمول الخوف، وغلبة الرّعب، وكان البلد يتّقد نارا بالسّؤال والتّعرّف والإرجاف بالصّدق والكذب، وما يقال بالهوى والعصبيّة، فضاقت صدورنا، وخبثت سرائرنا واستولى علينا الوسواس، وقلنا ليلة: ما ترون يا صحابنا ما دفعنا إليه من هذه الأحوال الكريهة، كأنّا والله أصحاب نعم وأرباب ضياع نخاف عليها الغارة والنّهب، وما علينا من ولاية زيد، وعزل عمرو، وهلاك بكر، ونجاة بشر، نحن قوم قد رضينا في هذه الدنيا العسيرة، ولهذه الحياة القصيرة، بكسرة يابسة، وخرقة بالية، وزاوية من المسجد مع العافية من بلايا طلّاب الدّنيا. فما هذا الذي يعترينا من هذه الأحاديث التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، ولا حظّ ولا أمل، قوموا بنا غدا حتى نزور أبا زكريّا الزاهد، ونظلّ نهارنا عنده لاهين عمّا نحن فيه، ساكنين معه، مقتدين به.