فاتّفق رأينا على ذلك، فغدونا وصرنا إلى أبي زكرياء الزّاهد، فلما دخلنا رحّب بنا، وفرح بزيارتنا، وقال: ما أشوقني إليكم، وما ألهفني عليكم! الحمد لله الذي جمعني وإياكم في مقام واحد، حدّثوني ما الذي سمعتم، وماذا بلغكم من حديث الناس، وأمر هؤلاء السّلاطين؟ فرّجوا عنّي، وقولوا لي ما عندكم، فلا تكتموني شيئا فمالي والله مرعىّ في هذه الأيّام إلّا ما اتصل بحديثهم، واقترن بخبرهم! فلما ورد علينا من هذا الزّاهد العابد ما ورد، دهشنا واستوحشنا، وقلنا في أنفسنا: انظروا من أي شيء هربنا، وبأيّ شيء علقنا، وبأيّ داهية دهينا.
قال: فخفّفنا الحديث وانسللنا، فلمّا خرجنا قلنا: أرأيتم ما بلينا به، وما وقعنا عليه، إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ
[الصافات: ١٠٦] . ميلوا بنا إلى أبي عمرو الزّاهد فله فضل وعبادة وعلم وتفرّد في صومعته حتى نقيم عنده إلى آخر النّهار، فقد نبا بنا المكان الأوّل، وبطل قصدنا فيما عزمنا عليه من العمل. فمشينا إلى أبي عمرو الزّاهد واستأذنّا، فأذن لنا، ووصلنا إليه فسرّ بحضورنا، وهش لرؤيتنا، وابتهج بقصدنا، وأعظم زيارتنا، ثم قال: يا أصحابنا ما عندكم من حديث الناس؟ فقد والله طال عطشي إلى شيء أسمعه، ولم يدخل عليّ اليوم أحد فأستخبره، وإنّ أذني لدى الباب لأسمع قرعة أو أعرف حادثة، فهاتوا ما معكم وما عندكم، وقصّوا عليّ القصّة بفصّها ونصّها، ودعوا التّورية والكناية، واذكروا الغثّ والثمين، فإنّ الحديث هكذا يطيب، ولولا العظم ما طاب اللّحم، ولولا النّوى ما حلا التّمر، ولولا القشر لم يوجد اللّب.
فعجبنا من هذا الزّاهد الثاني أكثر من عجبنا من الزّاهد الأوّل، وخاطفناه الحديث، وودّعناه، وخرجنا، وأقبل بعضنا على بعض يقول: أرأيتم أظرف من أمرنا وأغرب من شأننا؟ انظروا من أيّ شيء كان تعريجنا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ
[ص: ٥] وتلدّدنا وتبلّدنا وقلنا: يا أصحابنا: انطلقوا إلى أبي الحسن الضرير، وإن كان مضربه بعيدا فإنّا لا نجد سكوننا إلّا معه، ولا نظفر بضالّتنا إلّا عنده، لزهده وعبادته وتوحّده وشغله بنفسه مع زمانته في بصره، وورعه، وقلّة فكره في الدّنيا وأهلها. وطوينا الأرض إليه، ودخلنا عليه، وجلسنا حواليه في مسجده، ولمّا سمع بنا أقبل على كلّ واحد منّا يلمسه بيده ويرحّب به، ويدعو له ويقرّب، فلمّا انتهى أقبل علينا وقال: أمن السماء نزلتم عليّ؟ والله لكأنّي قد وجدت بكم مأمولي، وأحرزت غاية سولي، قولوا لي غير محتشمين: ما عندكم من أحاديث النّاس؟ وما عزم عليه هذا الوارد؟ وما يقال في أمر ذلك الهارب إلى قايين، وما الشائع من الأخبار؟ وما الذي يتهامس به ناس دون ناس؟ وما يقع في هواجسكم ويستبق إلى نفوسكم؟ فإنّكم برد الآفاق، وجوّالة الأرض، ولقّاطة الكلام، ويتساقط إليكم من الأقطار ما يتعذّر على عظماء الملوك وكبراء الناس.