للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فورد علينا من هذا الإنسان ما أنسى الأوّل والثاني، ومما زاد في عجبنا أنّا كنا نعدّه في طبقة فوق طبقات جميع النّاس فخفّفنا الحديث معه، وودّعناه، وخنسنا من عنده، وطفقنا نتلاوم على زيارتنا لهؤلاء القوم لما رأينا منهم، وظهر لنا من حالهم، وازدريناهم.

وانقلبنا متوجّهين إلى دويرتنا التي غدونا منها مستطرقين كالّين، فلقينا في الطريق شيخا من الحكماء يقال له أبو الحسن العامريّ، وله كتاب في التصوّف قد شحنه بعلمنا وإشارتنا، وكان من الجوّالين الّذين نقّبوا في البلاد واطّلعوا على أسرار الله في العباد، فقال لنا: من أين درجتم، ومن قصدتم. فأجلسناه في مسجد، وعصبنا حوله، وقصصنا عليه قصّتنا من أوّلها إلى آخرها، ولم نحذف منها حرفا. فقال لنا:

في طيّ هذه الحال الطارئة غيب لا تقفون عليه، وسرّ لا تهتدون إليه، وإنما غرّكم ظنّكم بالزّهاد، وقلتم لا ينبغي أن يكون الخبر عنهم كالخبر عن العامّة، لأنهم الخاصّة، ومن الخاصّة خاصة الخاصة، لأنّهم بالله يلوذون، وإيّاه يعبدون، وعليه يتوكّلون، وإليه يرجعون، ومن أجله يتهالكون، وبه يتمالكون.

قلنا له: فإن رأيت يا معلّم الخير أن تكشف عنّا هذا الغطاء، وترفع هذا السّتر، وتعرّفنا منه ما وهب الله لك من هذا الغيب، لنكون شاكرين، وتكون من المشكورين.

فقال: نعم، أمّا العامّة فإنّها تلهج بحديث كبرائها وساستها لما ترجو من رخاء العيش وطيب الحياة وسعة المال ودرور المنافع واتصال الجلب ونفاق السّوق وتضاعف الرّبح، فأما هذه الطائفة العارفة بالله، العاملة لله، فإنها مولعة أيضا بحديث الأمراء، والجبابرة العظماء، لتقف على تصاريف قدرة الله فيهم، وجريان أحكامه عليهم، ونفوذ مشيئته في محابّهم ومكارههم في حال النّعمة عليهم، والانتقام منهم، ألا ترونه قال جلّ ثناؤه: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ

[الأنعام: ٤٤] ، وبهذا الاعتبار يستنبطون خوافي حكمته، ويطّلعون على تتابع نعمته وغرائب نقمته، وهاهنا يعلمون أنّ كلّ ملك سوى ملك الله زائل، وكلّ نعيم غير نعيم الجنّة حائل، ويصير هذا كلّه سببا قويا لهم في الضّرع إلى الله، واللّياذ بالله، والخشوع لله، والتوكّل على الله، وينبعثون به من حران الإباء، إلى انقياد الإجابة، ويتنبّهون من رقدة الغفلة، ويكتحلون باليقظة من سنة السّهو والبطالة، ويجدّون في أخذ العتاد، واكتساب الزاد إلى المعاد، ويعملون في الخلاص من هذا المكان الحرج بالمكاره، المحفوف بالرّزايا، الّذي لم يفلح فيه أحد إلّا بعد أن هدّمه وثلمه، وهرب منه، ورحل عنه إلى محلّ لا داء فيه ولا غائلة، ساكنه خالد، ومقيمه مطمئن، والفائز به منعّم، والواصل إليه مكرّم، وبين الخاصّة والعامّة في هذه الحال وفي غيرها فرق يضح لمن رفع الله طرفه إليه، وفتح باب السّرّ فيه عليه، قد يتشابه الرّجلان في فعل،

<<  <   >  >>