وأحدهما مذموم، والآخر محمود، وقد رأينا مصلّيا إلى القبلة وقلبه معلّق بإخلاص العبادة، وآخر إلى جانبه أيضا يصلّي إلى القبلة وقلبه في طرّ ما في كمّ الآخر، فلا تنظروا من كلّ شيء إلى ظاهره إلّا بعد أن تصلوا بنظركم إلى باطنه، فإنّ الباطن إذا واطأ الظاهر كان توحّدا، وإذا خالفه إلى الحقّ كان وحدة، وإذا خالفه إلى الباطل كان ضلالة، وهذه المقامات مرتّبة لأصحابها، وموقوفة على أربابها، ليس لغير أهلها فيها نفس، ولا لغير مستحقّها منها قبس.
قال الشيخ الصوفيّ: فو الله ما زال ذلك الحكيم يحشو آذاننا بهذه وما أشبهها، ويملأ صدورنا بما عنده حتى سررنا وانصرفنا إلى متعشّانا وقد استفدنا على يأس منّا فائدة عظيمة لو تمنّيناها بالغرم الثّقيل والسّعي الطويل لكان الرّبح معنا، والزيادة في أيدينا.
فلما سمع الوزير هذا عجب وقال: لا أدري: أكلام أبي سليمان في ذلك الاحتجاج أبلغ، أم الحكاية عن المعتضد أشفى، أم رواية الشيخ الصوفيّ أطرف، وما علمت أنّ في البحث عن سرّ الإرجاف هذه اللّطيفة الخفيّة، وهذه الحجّة الجليّة، وكنت أرى أنّ الصّوفيّة لا يرجعون إلى ركن من العلم، ونصيب من الحكمة، وأنهم إنما يهذون بما لا يعلمون، وأنّ بناء أمرهم على اللّعب واللهو والمجون.
فقلت: لو جمع كلام أئمّتهم وأعلامهم لزاد على عشرة آلاف ورقة عمّن نقف عليه في هذه البقاع المتقاربة، سوى ما عند قوم آخرين لا نسمع بهم، ولا يبلغنا خبرهم.
قال: فاذكر لي جماعة منهم.
قلت: الجنيد بن محمد الصوفيّ البغداديّ العالم، والحارث بن أسد المحاسبيّ، ورويم، وأبو سعيد الخرّاز، وعمرو بن عثمان المكّي، وأبو يزيد البسطاميّ، والفتح الموصليّ، وهو الّذي سمع وهو يقول: إلى متى تردّدني في سكك الموصل، أما آن للحبيب أن يلقى حبيبه؟ فمات بعد جمعة.
فقال: هذا عجب. ولقد مرّ في هذا الفنّ ما كان فوق حسباني وأكثر ممّا كان في ظنّي، وكم من شيء حقير يطّلع منه على أمر كبير.
وقال: أنشدني شيئا، فأنشدته قول الشاعر:
رجعت على السّفيه بفضل حلمي ... وكان تحلّمي عنه لجاما
وظنّ بي السّفاه فلم يجدني ... أسافهه وقلت له: سلاما
فقام يجرّ رجليه ذليلا ... وقد كسب المذلّة والملاما
وفضل الحلم أبلغ في سفيه ... وأحرى أن ينال به انتقاما
فقال: ما أعجب أمر العرب، تأمر بالحلم مرّة، والصّبر والكظم مرّة، وتحثّ