للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعد ذلك على الانتصاف وأخذ الثأر، وتذمّ السّفه وقمع العدوّ! وهكذا شأنها في جميع الأخلاق، أعني أنّها ربّما حضّت على القناعة والصّبر والرّضا بالميسور، وربّما خالفت هذا، فأخذت تذكر أنّ ذلك فسألة ونقصان همّة ولين عريكة ومهانة نفس، وكذلك أيضا تحثّ على البسالة والإقدام والانتصار والحميّة والجسارة، وربّما عدلت إلى أضداد هذه الأخلاق والسّجايا والضّرائب والأحوال، في أوقات يحسن فيها بعضها، ويقبح بعضها، ويعذر صاحبها في بعضها، ويلام في بعضها، وذلك لأنّ الطبائع مختلفة، والغرائز متعادية، فهذا يمدح البخل في عرض الحزم، وهذا يحمد الاقتصاد في جملة الاحتياط، وهذا يذمّ الشّجاعة في عرض طلب السّلامة، وليس في جميع الأخلاق شيء يحسن في كلّ زمان وفي كلّ مكان، ومع كلّ إنسان، بل لكلّ ذلك وقت وحين وأوان.

قال: ولعمري إنّ القيام بحقائق هذه الأشياء وحدودها صعب، لأنّها لا توجد إلّا متلابسة ومتداخلة، وتخليص كلّ واحد منها بحدّه وحقيقته ووزنه ممّا يفوت ذرع الإنسان الضعيف المنّة، المنتثر الطّينة.

قال: ومنه أنّ الحكيم قال للإسكندر: «أيّها الملك أرد حياتك لرجالك، ولا ترد رجالك لحياتك» ، ولو قلب عليه قالب فقال: لا: «ولكن أرد رجالك لحياتك، ولا ترد حياتك لرجالك» ، لكان الفضل واقعا، والدّعوى قائمة.

وكان يحكى عن أعرابيّ حديث مضحك: قيل لأعرابيّ: أتريد أن تصلب في مصلحة الأمّة؟ فقال: لا، ولكني أحبّ أن تصلب الأمّة في مصلحتي.

قال: وليس يجوز أن يكون الناس مختلفين في ظاهرهم بالصّور والحلى حتى يعرف بها زيد من عمرو، وبكر من خالد، ولا يختلفون في باطنهم حتى يكون هذا مطبوعا على الشحّ وإن مدح الجود، وهذا مجبولا على الجبن، وإن تشيّع للشجاعة، وليس يجوز في الحكمة أن يكثروا ولا يختلفوا، وليس يجوز أيضا أن يضمّ الجنس والنّوع ولا يأتلفوا، وكلّ ما أساغته الحكمة أبرزته القدرة، وكلّ ما جادت به القدرة شهدت له الحكمة، فسبحان من له هذا التّدبير اللّطيف، وهذا العزّ الغالب، وهذا السّرّ الخافي، وهذه العلانية البادية، وهذا الفعل المحكم، وهذا النّعت المستعظم.

وحكيت أيضا في شيء جرى، قال حكماء فارس: قد جرّبنا الملوك، فإذا ملكنا السّمح الجواد جادت علينا السماء والأرض، وإذا ملكنا البخيل بخلت علينا السماء والأرض.

قال أبو سليمان: هذا إذا صحّ فهو شاهد الفيض الإلهيّ المتّصل بالملك السّمح، ونضوبه عن الملك البخيل لأنّ الملك إله بشري.

وقال مرّة: ما التّمنّي؟ - وقد كان جرى ما اقتضى السّؤال عنه-.

<<  <   >  >>