إلا مقهورا، ولكن اتّفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله، وما نزع الله عنهم الملك إلّا بالحق، كما قال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ
[الزخرف: ٥٥] .
ثم قال: وبعد، فكلّ شيء خارج من الحكمة الإلهيّة والعقليّة والطبيعيّة فهو ساقط بهرج، ومردود مرذول، إذا فعله جاهل عذر بالجهل، وإذا أتاه عالم عذل للعلم.
قال: وكانت العرب بهذا الخلق الذميم، وهذا الفعل اللئيم، لو فعلته أعذر، لأنّهم أشدّ غلمة من غيرهم وأكثر تهيّجا، وأقوى على البضاع، وأوثب على النساء يدلّك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا، ولو كان لكان أوّل من دقّ رأسه بالعمد، وبعج بطنه بالخنجر، وما منعهم من هذا إلّا الأنفس الكريمة، والطباع المعتدلة، والشكائم الشديدة، والأرواح العيّفة، والعادات الرضيّة، والضرائب الطيّبة، وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير، وأطرد للقبائح من هذا الّذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس، وهم يدّعون الحكم والعلم والحزم والعزم، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عمّا يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحا له أو حاظرا، أو مطلقا أو مانعا، أو محلّلا أو محرّما، هيهات ما كلّف الله أهل العقل القيام بالدّين والتّصفّح للحقّ من الباطل إلّا لما شرّفهم به في العاجل، وعرّضهم له في الآجل، والعاقبة للمتّقين.
قال أبو الحسن الأنصاريّ- وكان حاضرا-: الهند أوضح عذرا في هذا الحديث لأنّهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة، ولم ينسبوا إلى الله شيئا منه، ولا استجازوا الكذب عليه، ولا علّقوه أيضا على نبيّ من عند الله، بل رأوه صوابا بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة.
وبعد، فعقولهم مدخولة، والبارع منهم قليل، وهم إلى الإفك والوهم والسّحر أميل، وفي أبوابها أدخل.
ثم قال أبو الحسن: انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل، وخيّر بينها وبين عقول العرب، فإنّهم قالوا:
«اغتربوا لا تضووا»«١» . واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنّ الضّوى مكروه، والعرب قالت هذا بالإلهام، لقرائحهم الصافية، وأذهانهم