للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يؤمن بسلطة عليا فوق الكون، كما كان يؤمن بهذا أيضا أستاذه أبو سليمان المنطقي السجستاني.

ونتيجة لسوء اعتقاده، في زعم خصومه، نفاه من بغداد الوزير المهلبي، كما طلبه الصاحب كافي الكفاة ليقتله بعد أن اطلع على ما قيل إنه كان يخفيه من القدح في الدين، فالتجأ إلى أعدائه وظل مستترا إلى أن مات في الاستتار.

غادر أبو حيان بغداد- راضيا أم كارها- بقصد الرحيل إلى الريّ للاتصال بأبي الفضل بن العميد. وكان لابن العميد- في ذلك الوقت- قدر مهيب، فقد كان الشعراء يقصدون بابه لكرمه وسخائه، كما كان الناقدون يثنون عليه لفصاحته وبلاغته. ومن بين الذين مدحوا ابن العميد من الشعراء- كما هو معروف- أبو الطيّب المتنبّي، كما أثنى عليه من بين الفلاسفة مسكويه الذي عهد إليه ابن العميد بمنصب «خازن كتبه» .

وكان أبو حيان ينتظر من ابن العميد، أن ينقذه من براثن الفقر، وأن يسبغ عليه الكثير من العطايا، ولكن الظاهر أنه لم يظفر منه بما كان يطمع فيه.

ومهما يكن من شيء، فقد غادر أبو حيان بغداد حوالي سنة ٣٦٧ هجرية قاصدا مدينة الري مرة أخرى للاتصال بالوزير الصاحب بن عباد. وقد كانت خيبة أمله في ابن العميد الوالد وابن العميد الابن (أي في أبي الفضل وأبي الفتح) سببأ في إقباله على باب الصاحب، آملا أن يجد عنده ما لم يظفر به عند ابن العميد. وكان التوحيدي قد سمع عن كرم الصاحب، فقصده «بأمل فسيح، وصدر رحيب» ، ولكنه لم يستطع أن ينال حظوته، لرفضه أن يكون كاتب الإنشاء. وقد روى التوحيدي قصة وقوفه بباب الصاحب فقال إنه لما وصل مدينة الري، قال له الصاحب: «الزم دارنا، وانسخ لنا هذا الكتاب، فقلت: أنا سامع مطيع، ثم قلت لبعض الناس في الدار مسترسلا: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب، وزاحمت منتجعي هذا الربيع، لأتخلص من حرفة الشؤم، فإن الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة، فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه، فزاده تنكرا. وكان الرجل خفيف الدماغ لا يعرف الحلم إلا بالاسم» «١» ..

وواضح من هذه القصة أن أبا حيان لم يكن ينتظر من الصاحب بن عباد أن يعهد إليه بعمل من أعمال الوراقة التي كان قد سئمها وتمنى التخلص منها! ويعترف التوحيدي نفسه بأن الصاحب طلب إليه يوما أن يقرأ عليه الرسالة التي كان قد توسل بها إلى أبي الفتح بن العميد- وكان الوزيران خصمين لدودين- فقرأها التوحيدي عليه، مما أهاج حفيظة الصاحب ضده، خصوصا وأن التوحيدي قد وصف فيها ابن العميد بأنه «سيد الناس» ، وأنه «الشمس المضيئة بالكرم، والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب

<<  <   >  >>