للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذم بِالتَّرْكِ جُزْءًا أَوْ لَازِمًا.

وَمَا قِيلَ: مِنْ أنه لو سُلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لَزِمَ أَنْ لَا مُبَاحَ؛ إِذْ تَرَكَ المأمور به وَضِدِّهِ يَعُمُّ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمَفْرُوضُ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُبَاحًا، فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الضِّدُّ الْمُفَوِّتُ لِلْأَمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ ضِدٍّ مُفَوِّتًا وَلَا كُلُّ مُقَدَّرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ضِدًّا مُفَوِّتًا، كَخَطْوَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَابْتِلَاعِ رِيقِهِ، وَفَتَحَ عَيْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ مُغَايِرَةٌ بِالذَّاتِ لِلصَّلَاةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُطْلَقُ "عَلَيْهَا"* الضِّدُّ لِلصَّلَاةِ لَكِنَّهَا لَا تُفَوِّتُ الصَّلَاةَ.

وَزَادَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ، كَمَا أن الأمر بشيء يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ دَلِيلًا آخَرَ فَقَالُوا: إن النهي طلب ترك فعل وَتَرْكُهُ بِفِعْلِ أَحَدِ أَضْدَادِهِ، فَوَجَبَ أَحَدُ أَضْدَادِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْوَاجِبُ إلا به واجب.

ودفع بأنه يَلْزَمُ كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُضَادَّةِ وَاجِبًا كالزنا، فإنه من حيث كونه تركًا لِلِّوَاطِ لِكَوْنِهِ ضِدًّا لَهُ يَكُونُ وَاجِبًا، وَيَكُونُ اللواط من حيث كونه تركًا للزنا واجبًا.

وَدُفِعَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُوجَدُ مباح؛ لأن كل مباح تَرْكُ الْمُحَرِّمِ وَضِدٌّ لَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: غَايَةُ مَا يَلْزَمُ وُجُوبُ أَحَدِ الْمُبَاحَاتِ الْمُضَادَّةِ لَا كلها، فيقال: إِنَّ وُجُوبَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ كَمَا فِي خِصَالِ الكفارة.

وَدُفِعَ أَيْضًا: بِمَنْعِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الواجب أو المحرم إلا به.

وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ أَوِ الْمُحَرَّمُ إِلَّا بِهِ لَجَازَ تركه، وذلك يستلزم جواز تَرْكِ الْمَشْرُوطِ فِي الْوَاجِبِ، وَجَوَازَ فِعْلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْمُحَرَّمِ بِدُونِ شَرْطِهِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْمُخَصِّصُونَ لِأَمْرِ الْإِيجَابِ: بِأَنَّ اسْتِلْزَامَ الذَّمِّ لِلتَّرْكِ الْمُسْتَلْزِمِ "لِلنَّهْيِ"** إِنَّمَا هُوَ فِي أَمْرِ الْوُجُوبِ.

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ وَلَوْ إِيجَابًا، وَالنَّهْيَ يَقْتَضِي كون الضد سُنَّةً مُؤَكَّدَةً بِمِثْلِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ: بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل، وَأَنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالضِّدِّ الْمُتَّحِدِ وَفِي الْمُتَعَدِّدِ بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.

وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ ذِكْرَ الْكَرَاهَةِ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ، وَذِكْرَ السُّنِّيَّةِ فِي جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم.


* ما بين قوسين ساقط من "أ".
** في "أ": للنفي.

<<  <  ج: ص:  >  >>