للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد]

...

المسألة التاسعة: في جوز تَفْوِيضِ الْمُجْتَهِدِ

قَالَ الرَّازِيُّ فِي "الْمَحْصُولِ": اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ تعالى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لِلْعَالِمِ: احْكُمْ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إلا بالصواب؟

فقطع بوقوعه مويس بْنُ عِمْرَانَ١ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَطَعَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ بِامْتِنَاعِهِ.

وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي امْتِنَاعِهِ وَجَوَازِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. انْتَهَى.

وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّفْوِيضِ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ، أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَفْوِيضِ الْحُكْمِ بِمَا شَاءَ الْمُفَوَّضُ، وَكَيْفَ اتَّفَقَ لَهُ.

وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ امْتِنَاعِهِ لِغَيْرِهِ.

وَهَذَا الدَّلِيلُ سَاقِطٌ جِدًّا، وَتَفْوِيضُ مَنْ كَانَ ذَا عِلْمٍ، بِأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَرَادَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، مَعَ كَوْنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَخْتَلِفُ مَسَالِكُهَا، وَتَتَبَايَنُ طَرَائِقُهَا، وَلَا عِلْمَ لِلْعَبْدِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا، وَلَا بِمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لمسلم أن يقول بجوازه، ولا يردد فِي بُطْلَانِهِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ الْجَامِعَ لِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ، الْمُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، إِذَا بَحَثَ وَفَحَصَ، وَأَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ، فَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَجَّحَهُ، وَقَالَهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَيْفَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ مَا أَرَادَ، وَيَفْعَلَ مَا اخْتَارَ، مِنْ دُونِ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَكَيْفَ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ الْقَطْعِ: بِأَنَّ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي زَعَمَ الزَّاعِمُ جَوَازَ تَفْوِيضِهِ مُكَلَّفٌ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِهَا، مَأْخُوذٌ بِمَا أُخِذُوا بِهِ، مَطْلُوبٌ مِنْهُ مَا طُلِبَ مِنْهُمْ، فَمَا الَّذِي رَفَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ الَّذِي كُلِّفَ بِهِ غَيْرُهُ، وَمَا الَّذِي أَخْرَجَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخِطَابِ، بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهَلْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ إِلَّا مُجَرَّدُ جَهْلٍ بَحْتٍ، وَمُجَازَفَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ بِتَفْوِيضِ الْعَبْدِ، مَعَ جَهْلِهِ بِمَا فِي أَحْكَامِ اللَّهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ "هَكَذَا"* قَدْ يَقَعُ اخْتِيَارُهُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَعَلَى مَا لَا مَصْلَحَةَ فيه.


* في "أ": هذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>