للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المسألة الثالثة: في تجزء الاجتهاد]

...

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تجزُّؤ الِاجْتِهَادِ

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَا هُوَ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْأَدِلَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ له أن يجتهد فيها أو لا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا، عِنْدَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ؟

فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَتَجَزَّأُ، وَعَزَاهُ الصَّفِيُّ الندي إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "النُّكَتِ"١ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَآخِذِ أَحْكَامِهِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَآخِذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالرَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُنْتَصِبًا لِلِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي نَوْعٍ مِنَ الْفِقْهِ، رُبَّمَا كَانَ أَصْلُهَا فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ.

احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَجَزَّأِ الِاجْتِهَادُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَاللَّازِمُ منتفٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ سُئِلَ فَلَمْ يُجِبْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سُئِلَ عَنْ مَسَائِلَ، فَأَجَابَ فِي الْبَعْضِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ بِلَا خِلَافٍ.

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَأَجَابَ فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا، وَقَالَ فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَانِعٍ، أَوْ لِلْوَرَعِ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ السَّائِلَ مُتَعَنِّتٌ، وَقَدْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْمَسَائِلِ إِلَى "مَزِيدِ"* بَحْثٍ، يَشْغَلُ الْمُجْتَهِدَ عَنْهُ شَاغِلٌ فِي الْحَالِ.

وَاحْتَجَّ "النَّافُونَ"** بِأَنَّ كُلَّ مَا يُقَدَّرُ جَهْلُهُ بِهِ يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِالْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ظَنُّ عَدَمِ الْمَانِعِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَفْرُوضَ حُصُولُ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ.

وَيُرَدُّ هَذَا الْجَوَابُ: بِمَنْعِ حُصُولِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِنَّ من لا


* في "أ": فريد.
** في "أ": الباقون.

<<  <  ج: ص:  >  >>