للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المبحث الثاني: النهي الحقيقي ومعناه]

اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ الحق، وَيَرِدُ فِيمَا عَدَاهُ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلَ" ١ فَإِنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} ٢ فَإِنَّهُ لِلدُّعَاءِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاء} ٣ فَإِنَّهُ لِلْإِرْشَادِ، وَكَمَا فِي قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ: لَا تَمْتَثِلْ أَمْرِي؟! فَإِنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} ٤ فَإِنَّهُ لِلتَّحْقِيرِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ٥ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ الْعَاقِبَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} ٦ فَإِنَّهُ لِلتَّأْيِيسِ، وَكَمَا فِي قَوْلِكَ لِمَنْ يُسَاوِيكَ: "لَا تَفْعَلْ" فَإِنَّهُ لِلِالْتِمَاسِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ يَرُدُّ مَجَازًا لِمَا وَرَدَ لَهُ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ٧، وَلَا يُخَالِفُ الْأَمْرَ إِلَّا فِي كَوْنِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي كَوْنِهِ لِلْفَوْرِ فَيَجِبُ تَرْكُ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ.

قِيلَ: وَيُخَالِفُ الْأَمْرَ أَيْضًا فِي كَوْنِ تَقَدُّمِ الْوُجُوبِ قَرِينَةً دالة على أنه للإباحة، ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على أنه لا يكون تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ قَرِينَةً لِلْإِبَاحَةِ، وَتَوَقَّفَ الْجُوَيْنِيُّ فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمُجَرَّدُ هَذَا التَّوَقُّفِ لَا يَثْبُتُ له الطعن فِي نَقْلِ الْأُسْتَاذِ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ: بِأَنَّ الْعَقْلَ يَفْهَمُ الْحَتْمَ مِنَ الصِّيغَةِ الْمُجَرَّدَةِ "عَنِ الْقَرَائِنِ"* وَذَلِكَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.


* في "أ": القرينة.

<<  <  ج: ص:  >  >>