للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثامنة عشرة: عُمُومِ الْمُقْتَضَى

اخْتَلَفُوا فِي الْمُقْتَضَى هَلْ هُوَ عَامٌّ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْرِيرِ تَصْوِيرِهِ قَبْلَ نَصْبِ الْخِلَافِ فِيهِ، فَنَقُولُ: المقتضِي بِكَسْرِ الضَّادِ، هُوَ اللَّفْظُ الطَّالِبُ لِلْإِضْمَارِ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ، وَهُنَاكَ مُضْمَرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهَلْ تُقَدَّرُ جَمِيعُهَا، أَوْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ التَّقْدِيرُ هُوَ المقتضَى بِفَتْحِ الضَّادِ.

وَقَدْ ذَكَرُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، مِثْلَ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ١ و"قدره بَعْضُهُمْ: وَقْتُ إِحْرَامِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ: وَقْتُ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ" وَمِثْلُ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ" ٢ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَسْتَقِيمُ بِلَا تَقْدِيرٍ، لِوُقُوعِهِمَا مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدَّرُوا فِي ذَلِكَ تَقْدِيرَاتٍ مُخْتَلِفَةً، كَالْعُقُوبَةِ، وَالْحِسَابِ، وَالضَّمَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" ٣ وأمثال ذلك كثيرة، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِأَنَّ مَا سِوَاهُ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْجَمِيعِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ انْتَهَى.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ، بَلْ يُقَدَّرُ مِنْهَا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ دليل على إرادته، وَاحِدٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ كَانَ مُجْمَلًا بَيْنَهَا وَبِتَقْدِيرِ الْوَاحِدِ مِنْهَا الَّذِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَتَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ فَكَانَ ذِكْرُ مَا عَدَاهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ.

وَأَيْضًا قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وفخر الدين الرازي،


* ما بين قوسين ساقط من "أ".

<<  <  ج: ص:  >  >>