للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا؛ إِذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِثْلَ الْجُنُبِ، وَالْمُحْدِثِ، مَأْمُورَانِ بالصلاة، بل هي مفروضة في جزء مِنْهَا، وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، أَيْ: بِفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ عَمَلًا عِنْدَ الْأَوَّلِينَ، لَا عِنْدَ الْآخِرِينَ.

وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْآخِرِينَ: هُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي؛ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِالْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ، دُونَ الْأَوَامِرِ.

وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ.

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِأَمْرِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى الْكَافَّةِ، وَبِالْمُعَامَلَاتِ أَيْضًا.

وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الْعِبَادَاتِ: أَنَّهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْإِيمَانُ.

اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِالْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم} ١ وَنَحْوِهَا، وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا وَرَدَ مِنَ الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ عَلَى التَّرْكِ كقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين} ٢.

لَا يُقَالُ: قَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِجَوَازِ كَذِبِهِمْ؛ لأنا نقول: ولو كَذَبُوا لَكُذِّبُوا.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ٣.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} ٤.

وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَاسْتَدَلَّ الْآخِرُونَ بِأَنَّهُمْ: لَوْ كُلِّفُوا بِهَا لَصَحَّتْ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، "وَلَأَمْكَنَ"* الِامْتِثَالُ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ، وَلَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ حَالَ الْكُفْرِ، لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ حَالُ الْمَوْتِ، لِسُقُوطِ الْخِطَابِ.

وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْكُفْرِ لَيْسَتْ قَيْدًا لِلْفِعْلِ فِي مُرَادِهِمْ بالتكليف به


* في "أ": أو لأمكن.

<<  <  ج: ص:  >  >>