للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ١ فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَيْسَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ، وَبِنَظَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ٢ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ فِي حَقِّهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَازَعَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ.

وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، بَلْ فِي اللَّفْظِ، أَمَّا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى، فَلِأَنَّ اللَّفْظَ، لَمَّا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَالْعَقْلُ مَنَعَ مِنْ ثُبُوتِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَإِمَّا أَنْ يُحْكَمَ بِصِحَّةِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ يُرَجَّحُ النَّقْلُ عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ لِلنَّقْلِ، فَالْقَدْحُ فِي الْعَقْلِ قَدْحٌ فِي أَصْلِ النَّقْلِ وَالْقَدْحُ فِي الْأَصْلِ لِتَصْحِيحِ الْفَرْعِ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِمَا مَعًا، وَإِمَّا أَنْ يُرَجَّحَ حُكْمُ الْعَقْلِ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ.

وَأَمَّا الْبَحْثُ اللَّفْظِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ هَلْ يُسَمَّى مُخَصِّصًا أَمْ لَا؟

فَنَقُولُ: إِنْ أَرَدْنَا بِالْمُخَصِّصِ: الْأَمْرَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ هُوَ الْإِرَادَةُ الْقَائِمَةُ بِالْمُتَكَلِّمِ "والعقل"* يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَحَقُّقِ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَالْعَقْلُ يَكُونُ دَلِيلَ الْمُخَصِّصِ، لَا نَفْسَ الْمُخَصِّصِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكِتَابُ مُخَصِّصًا لِلْكِتَابِ، وَلَا السُّنَّةُ مُخَصِّصَةً لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ذَلِكَ التَّخْصِيصِ هُوَ الْإِرَادَةُ لَا تِلْكَ الْأَلْفَاظُ. انْتَهَى.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ صِيغَةَ الْعَامِّ إِذَا وَرَدَتْ، وَاقْتَضَى الْعَقْلُ عَدَمَ تَعْمِيمِهَا فَيُعْلَمُ من جهة العقل أن المراد بها خصوص ما لا يحيله العقل، وليس المراد أن للعقل صلة لصيغة نازلة بمنزلة المتصل بالكلام، ولكن الْمُرَادَ بِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ مُطْلَقَ الصِّيغَةِ لَمْ يُرَدْ تَعْمِيمُهَا.

وَفَصَلَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "اللُّمَعِ" بَيْنَ مَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَدِلُّ بِهِ لِعَدَمِ الشَّرْعِ، فَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَصَارَ الْحُكْمُ لِلشَّرْعِ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ كَالَّذِي دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى نَفْيِهِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ نَحْوَ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} فَقُلْنَا: الْمُرَادُ مَا خَلَا الصِّفَاتِ، لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ على ذلك. انتهى.


* في "أ": والنقل.

<<  <  ج: ص:  >  >>