وَأُجِيبَ: بِأَنَّ كَوْنَ التَّوْقِيفِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْإِرْسَالِ إِنَّمَا يُوجِبُ سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى التَّوْقِيفِ، لَا سَبْقَ الْإِرْسَالِ عَلَى اللُّغَاتِ، حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِتَعْلِيمِهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ وُجُودِهَا، مَعْلُومَةً لِلرَّسُولِ عَادَةً، لِتَرَتُّبِ فَائِدَةِ الْإِرْسَالِ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلِمَهَا، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا لِأَقْدَمِ رَسُولٍ انْدَفَعَ الدَّوْرُ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَوْقِيفِيَّةً لَكَانَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، بِأَنْ وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو. إِمَّا أن يقال: "الله"* خُلِقَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِي عَاقِلٍ، أَوْ فِي غَيْرِ عَاقِلٍ، وَبَاطِلٌ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي عَاقِلٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَضَعَ تِلْكَ اللَّفْظَةَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا لَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ ضَرُورِيًّا، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ضَرُورِيًّا لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا. وَبَاطِلٌ أَنْ يَخْلُقَهُ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ عَالِمًا بِهَذِهِ اللُّغَاتِ الْعَجِيبَةِ، وَالتَّرْكِيبَاتِ اللَّطِيفَةِ.
احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الِاصْطِلَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِأَنْ يُعَرِّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ مَا فِي ضَمِيرِهِ، فَإِنْ عَرَّفَهُ بِأَمْرٍ آخَرَ اصْطِلَاحِيٍّ، لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ التَّوْقِيفِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُحْدَثَ لُغَاتٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الِاصْطِلَاحِ، بَلْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُحْدِثُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَلْفَاظًا مَا كَانُوا يَعْلَمُونَهَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأُجِيبَ: بِمَنْعِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الِاصْطِلَاحِ، بَلْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّرْدِيدِ وَالْقَرَائِنِ، كَالْأَطْفَالِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ: فَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ: بِأَنْ فَهْمَ مَا جَاءَ تَوْقِيفًا لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الِاصْطِلَاحِ وَالْمُوَاضَعَةِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ.
وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ: بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ مُنَاسَبَةٌ بِوَجْهٍ مَا، لَكَانَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الْمُعَيَّنِ لِلْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ تَرْجِيحًا بِدُونِ مُرَجِّحٍ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَاضِعُ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، كَانَ تَخْصِيصُ الِاسْمِ الْمُعَيَّنِ بِالْمُسَمَّى الْمُعَيَّنِ، كَتَخْصِيصِ وُجُودِ الْعَالَمِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، دُونَ مَا قَبْلَهُ أو ما بَعْدَهُ.
وَأَيْضًا: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا فِي وَضْعِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنْ خَفِيَ علينا.
* ما بين قوسين ساقط من "أ".