للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي:

وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِهِ، فَهُمْ فَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا:

خَصَّصَ ذَلِكَ الْمَنْعَ بِشَرْعِنَا، وَقَالَ: لِأَنَّ مَبْنَى شَرْعِنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ.

وَالْفَرِيقُ الثَّانِي:

الَّذِينَ قَالُوا: يَمْتَنِعُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ. انْتَهَى.

قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: الْمُثْبِتُونَ لِلْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:

أَحَدُهَا: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالشَّرْعِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَالثَّانِي: ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ.

وَالثَّالِثُ: نَفْيُهُ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَثُبُوتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ، وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَارِفَ ضَرُورِيَّةٌ.

وَالرَّابِعُ: نَفْيُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ والشَّرْعِيَّاتِ.

وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيُّ. انْتَهَى.

وَالْمُثْبِتُونَ لَهُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا.

قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُوَ دَلِيلٌ بِالشَّرْعِ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ بِالْعَقْلِ، وَالْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَرَدَتْ مُؤَكِّدَةً لَهُ.

وَقَالَ الدَّقَّاقُ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي "الرَّوْضَةِ"١، وَجَعَلَهُ مَذْهَبَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنِ الْقِيَاسِ. قَالَ: وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَالنَّظَّامِ إِلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِقَوْلِهِ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ.

وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهِ أيضًا اختلافًا آخر، وهو: هل دَلَالَةُ السَّمْعِ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى الْأَوَّلِ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَالْآمِدِيُّ إلى الثاني.


١ هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، موفق الدين، الإمام القدوة، العلامة المجتهد، شيخ الإسلام، أبو محمد، ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة هـ وتوفي سنة عشرين وستمائة هـ، من آثاره "المغني، الكافي، المقنع، العمدة" وغيرها كثير، وله كتاب "روضة الناظر" في أصول الفقه، وهو مطبوع.
انظر: سير أعلام النبلاء ٢٢/ ١٦٥ شذرات الذهب ٥/ ٨٨، الأعلام ٤/ ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>