قَالَ ابْنُ فُورَكَ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى الشَّبَهِ، وَمَنَعَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَاسِيِّينَ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ إِذَا لَاحَ بَعْضُ الشَّبَهِ.
وَالْحَقُّ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ.
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لما يتغير الشئ بِحُصُولِهِ، أَخْذًا مِنَ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَرَضُ؛ لأن تأثرها فِي الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِي ذَاتِ الْمَرِيضِ، يُقَالُ: اعْتَلَّ فُلَانٌ، إِذَا حَالَ عَنِ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ، وَهُوَ مُعَاوَدَةُ الشُّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِهَا يُعَاوِدُ النَّظَرَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّهَا الْمُعَرِّفَةُ لِلْحُكْمِ، بِأَنْ جُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ، إِنْ وُجِدَ الْمَعْنَى وُجِدَ الْحُكْمُ، قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيُّ فِي "التَّقْرِيبِ" عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ "الْمَحْصُولِ"، وَصَاحِبُ "الْمِنْهَاجِ"١.
الثَّانِي:
أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا، لَا بِجْعَلِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِ جَاعِلٍ.
الثَّالِثُ:
أَنَّهَا الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ، عَلَى مَعْنَى: أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهَا مُوجِبَةً بِذَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيُّ. قَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَرِيبٌ لَا باس به.
الرابع:
أنها الوجبة بِالْعَادَةِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
الْخَامِسُ:
أَنَّهَا الْبَاعِثُ عَلَى التَّشْرِيعِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ صَالِحَةٍ لِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ.
السَّادِسُ:
أَنَّهَا الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ صَلَاحَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالْحُكْمِ لِأَجْلِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّازِيِّ، وابنِ الْحَاجِبِ.
السَّابِعُ:
أَنَّهَا الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهَا.
وَلِلْعِلَّةِ أَسْمَاءٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ، فَيُقَالُ لَهَا: السَّبَبُ، وَالْأَمَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ.
١ وبهذا القول قال صدر الشريعة، انظر التلويح على التوضيح ٢/ ٦٢ وميزان الأصول ٢/ ٨٢٧