وَجَعَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَشُرَّاحُ كَلَامِهِ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ لِتَنَافِيهِمَا.
وَثَانِيهِمَا:
إِبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ ابْتِدَاءً، إما صريحا، أو بالالتزام.
ومثال الأول: أن يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: الِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ لُبْثٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءٍ، فَلَا يَكْفِي أَقَلُّهُ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، هَذَا الصَّرِيحُ.
وَأَمَّا الِالْتِزَامُ: فَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: بَيْعُ غَيْرِ الْمَرْئِيِّ بَيْعُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ: كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، كَالنِّكَاحِ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اعْتِبَارِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهُ قَادِحٌ.
وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَقَالَ: إِنَّ الْحُكْمَيْنِ، أَيْ: مَا يُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَمَا يُثْبِتُهُ الْقَالَبُ، إِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَلَا قَلْبَ؛ إِذْ لَا مَنْعَ مِنَ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ لِحُكْمَيْنِ غَيْرِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَإِنِ اسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُمْكِنِ الرَّدُّ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بعينه، فلا يكون قلبا؛ إذ لا بد فِيهِ مِنَ الرَّدِّ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ لِذَاتِهِمَا، فَلَا جَرَمَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْأَصْلِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْقَالِبُ الْحُكْمَ الْآخَرَ فِي الْفَرْعِ بِالرَّدِّ إِلَى الْأَصْلِ، امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَازِمٌ جَدَلًا لَا دِينًا١.
وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقَلْبَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، حَيْثُ اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" ٢ فِي مَسْأَلَةِ الساحة، قال: وفي "هدم"* البناء ضرار
* في "أ": هذا