للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّكْلِيفُ؛ إِذِ التَّكْلِيفُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِذَا زَالَ التَّكْلِيفُ بَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ.

قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَدَهْرٍ وَزَمَانٍ، وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، كَمَا قَالَ الْخَصْمُ، فَلَيْسَ بِصَوَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُدِمَ الْفُقَهَاءُ لَمْ تُقَمِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا، وَلَوْ عُطِّلَتِ الْفَرَائِضُ كُلُّهَا لَحَلَّتِ النِّقْمَةُ بِالْخَلْقِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ النَّاسِ "١ وَنَحْنُ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نُؤَخَّرَ مَعَ الْأَشْرَارِ. انْتَهَى.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، لَكِنْ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يُنْتَقَضُ بِهِ الْقَوَاعِدُ، بِسَبَبِ زَوَالِ الدُّنْيَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ.

وَقَالَ فِي "شَرْحِ خُطْبَةِ الْإِلْمَامِ": وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ، وَالْأُمَّةُ الشَّرِيفَةُ لَا بُدَّ لها من سالك إلى الحق على وضاح الحجة، إلى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى. انْتَهَى.

وَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّهُ قَدْ خَلَا الْعَصْرُ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِهِ الْقَفَّالُ، وَلَكِنَّهُ نَاقَضَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ لِلشَّافِعِيِّ، وإنما وافق رأيه رأيه، كما "نقل"* ذَلِكَ عَنْهُ الزَّرْكَشِيُّ٢، وَقَالَ: قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، مِمَّا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمْ، فَقَدْ عَاصَرَ الْقَفَّالَ، وَالْغَزَالِيَّ، وَالرَّازِيَّ، وَالرَّافِعِيَّ، مِنَ الْأَئِمَّةِ الْقَائِمِينَ بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْوَفَاءِ وَالْكَمَالِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَمَنْ كَانَ لَهُ إِلْمَامٌ بِعِلْمِ التَّارِيخِ، وَاطِّلَاعٍ عَلَى أَحْوَالِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا، بَلْ قَدْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعُلُومِ فَوْقَ مَا "اعْتَبَرَهُ"** أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاجْتِهَادِ.

وَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفَعَ مَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى مَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذِهِ "الْأُمَّةِ"*** مِنْ كَمَالِ الْفَهْمِ، وَقُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَعَارِفِ، فَهَذِهِ دَعْوَى مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلَاتِ، بَلْ هِيَ جَهَالَةٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ.

وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَيَسُّرِ الْعِلْمِ لِمَنْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ، وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَهْلِ عُصُورِهِمْ، فَهَذِهِ أَيْضًا دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يسره الله.


* في "ب": حكى.
** في "أ": اعتد به.
*** في "أ": الأئمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>