وَإِذَا أَعْوَزَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمَسَّكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَنْ يُقَدِّمَ طَرِيقَ الْجَمْعِ عَلَى وَجْهٍ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ ذَلِكَ رَجَعَ إِلَى التَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى١.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الاجتهاد بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا:
مَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسْتَخْرَجًا مِنْ مَعْنَى النَّصِّ، كَاسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا، فَهَذَا صَحِيحٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ.
ثانيها:
مَا اسْتَخْرَجَهُ مِنْ شِبْهِ النَّصِّ، كَالْعَبْدِ، لِتَرَدُّدِ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَشَبَهِهِ بِالْبَهِيمَةِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ مملوك، فهذا صحيح، غير مدفوع عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالْمُنْكِرِينَ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُنْكِرِينَ لَهُ جَعَلُوهُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ.
ثَالِثُهَا:
مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ عُمُومِ النَّصِّ، كَالَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} ٢ فَإِنَّهُ "يَعُمُّ الْأَبَ وَالزَّوْجَ وَالْمُرَادُ بِهِ"* أَحَدُهُمَا، وَهَذَا صَحِيحٌ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالتَّرْجِيحِ.
رَابِعُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ إِجْمَاعِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي الْمُتْعَةِ {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ٣ فيصح الاجتهاد في قدرة الْمُتْعَةِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ.
خَامِسُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصِّ كَقَوْلِهِ فِي التَّمَتُّعِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ٤ فَاحْتَمَلَ صِيَامَ السَّبْعَةِ إِذَا رَجَعَ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي تَغْلِيبِ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى.
سَادِسُهَا:
مَا اسْتُخْرِجَ مِنْ دَلَائِلِ النَّصِّ، كَقَوْلِهِ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} ٥ فَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ بِمُدَّيْنِ، بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي فِدْيَةِ الْآدَمِيِّ أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّين، وَاسْتَدْلَلْنَا عَلَى تَقْدِيرِ نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بِمُدٍّ بِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ، أَنَّ لكل مسكين مدا.
* في "أ": تحريف لما بين قوسين.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute