وَقَالَ ابْنُ عَبدِ السَّلَامِ: رَجَعَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جَهْلًا "بِالْمَوْصُوفَاتِ"*.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ١ لا يفكر، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تُكَفِّرُ مَنْ يُكَفِّرُكَ، فَعَادَ إلى القول بالتفكير، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُمْ يُكَفِّرُونَ خُصُومَهُمْ، وَيُكَفِّرُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ.
وَقَدْ حَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَرْكَ التَّكْفِيرِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنْ جَهِلَ وُجُودَ الرَّبِّ، أَوْ عَلِمَ وَجُودَهُ، وَلَكِنْ فَعَلَ فِعْلًا، أَوْ قَالَ قَوْلًا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ كَافِرٍ. انْتَهَى.
وَاعْلَمْ: أَنَّ التَّكْفِيرَ لِمُجْتَهَدِي الْإِسْلَامِ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعَقْلِ عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ لَا يُبَالِي بِدِينِهِ، وَلَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَعَلَى ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَغَالِبُ الْقَوْلِ بِهِ نَاشِئٌ عَنِ العصبية، وبعضه ناشئ عن شبه واهية، وليست مِنَ الْحُجَّةِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَحِلُّ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي أَيْسَرِ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَدْحَضَةُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ، وَمَذْهَبَ خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ يَدْفَعُ ذَلِكَ دَفْعًا لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى شُبَهَةٍ دَاحِضَةٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَسْطِ الْكَلَامِ على هذا المرام، فموضعه علم الكلام.
* في "أ": بالموصوف.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute