للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مصيبًا، و"إطلاق"* اسْمِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَجْرٌ، فَمَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَجَعَلَ الْحَقَّ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً بَيِّنًا، وَخَالَفَ الصَّوَابَ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمُجْتَهِدِينَ قِسْمَيْنِ، قِسْمًا مُصِيبًا، وَقِسْمًا مخطئا، ولو كان كل واحد مِنْهُمْ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَعْنًى.

وَهَكَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمُخَالِفَهُ آثم، فإن هذا الْحَدِيثَ يَرُدُّ عَلَيْهِ رَدًّا بَيِّنًا، وَيَدْفَعُهُ دَفْعًا ظاهرا؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى مَنْ لَمْ يُوَافِقِ الْحَقَّ فِي اجْتِهَادِهِ مُخْطِئًا، وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْأَجْرِ، فَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا شُبْهَةَ أن الحق واحد، ومخالفه مخطئ مَأْجُورٌ، إِذَا كَانَ قَدْ وفَّى الِاجْتِهَادَ حَقَّهُ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْبَحْثِ، بَعْدَ إِحْرَازِهِ لِمَا يَكُونُ بِهِ مُجْتَهِدًا.

وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى هَذَا حَدِيثُ: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ" ١ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ وَاحِدًا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ: "وَإِنْ طَلَبَ مِنْكَ أَهْلُ حِصْنٍ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا" ٢.

وَمَا أَشْنَعَ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْجَاعِلُونَ لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وجل متعددا بتعدد الْمُجْتَهِدِينَ، تَابِعًا لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ مِنَ الِاجْتِهَادَاتِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ شَرِيعَتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، هِيَ أَيْضًا صَادِرَةٌ عَنْ مَحْضِ الرَّأْيِ، الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ لَهُ دَلِيلٌ، وَلَا عَضَّدَتْهُ شُبْهَةٌ تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ، وَهِيَ أَيْضًا مُخَالِفَةٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، سلفها خلفها، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ، مَا زَالُوا يُخَطِّئُونَ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ مَا هُوَ أَنْهَضُ مِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ، فَهُوَ لَا يَدْرِي بِمَا فِي بُطُونِ الدَّفَاتِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَسْرِهَا مِنَ التَّصْرِيحِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بتخطئه بعضهم البعض واعتراض بعضهم على بعض.


* ما بين قوسين ساقط من "أ".

<<  <  ج: ص:  >  >>