للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمُفْتِي فَهُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، ومثله قول من قال: إن المفتي الفقيه؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُجْتَهِدُ فِي مُصْطَلَحِ أَهْلِ الأصول.

والمستفتي من ليس بمجتهد، ومن لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِّ الْمُقَلِّدِ، عَلَى جَمِيعِ الْحُدُودِ، الْمَذْكُورَةِ، أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَمَلَ بِهِ لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شيء؛ لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ نَفْسُ الْحُجَّةِ١.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "التَّعْلِيقِ": لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، يُسَمَّى تَقْلِيدًا، وَأَمَّا قبول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ "يُبْنَيَانِ"* عَلَى الْخِلَافِ فِي حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَا هُوَ؟

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَقِّ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ، مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ، فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِالتَّقْلِيدِ ههنا غَيْرُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاصْطِلَاحُ، وَلِهَذَا قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَعْلِ القبول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْلِيدًا، وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَنْ وَجْهِهِ، وَفِي وُقُوعِ اسْمِ التَّقْلِيدِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.

قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا الِاسْمَ.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي "الْبَحْرِ"٢: وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ، وبه صرح إمام الحرمين في "التخليص" حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ يَهُونُ موقعها عن ذَوِي التَّحْقِيقِ. انْتَهَى.

وَبِهَذَا تَعْرِفُ أَنَّ التَّقْلِيدَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ "عَلَيْهِ"** لَا يَشْمَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ المطلوب.

قال ابن دقيق الْعِيدِ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمُ الْوَحْيُ، فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا الْوَحْيُ، أَوِ الِاجْتِهَادُ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ، وَاجْتِهَادُهُمُ اجْتِهَادٌ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ. انْتَهَى.

وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي فِي "التَّقْرِيبِ" الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الآخذ بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّاجِعَ إِلَيْهِ لَيْسَ بِمُقَلِّدٍ، بَلْ هُوَ صائر إلى دليل وعلم يقين. انتهى.


* في "أ": يبتنيان.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

<<  <  ج: ص:  >  >>