للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ ذَكَرْتُ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُصَرِّحَةَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي سَمَّيْتُهَا "الْقَوْلَ الْمُفِيدَ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ" فَلَا نُطَوِّلُ الْمُقَامَ بِذِكْرِ ذَلِكَ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ، مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ عَمَلَ الْمُجْتَهِدِ بِرَأْيِهِ إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَهَذَانِ الْإِجْمَاعَانِ يَجْتَثَّانِ التَّقْلِيدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَالْعَجَبُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، حَيْثُ لَمْ يَحْكُوا هَذَا القول إلا عن بعض المعتزلة.

والمذهب الثاني:

وَقَابَلَ مَذْهَبَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بَعْضُ الْحَشْوِيَّةِ وَقَالَ: يَجِبُ مُطْلَقًا١، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَقْنَعُوا بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ، حَتَّى أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ التَّقْلِيدَ جَهْلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ.

وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:

التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ، وَبِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْخِلَافِ أَقْوَالُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ مُقَلِّدُونَ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَلَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمُ الْأَرْبَعَةُ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَعَسَّفُوا فَحَمَلُوا كَلَامَ أَئِمَّتِهِمْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْمُجْتَهِدِينَ من الناس، لا المقلدين، فيا لله الْعَجَبُ.

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا: أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأُصُولِ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ إلى الأكثر، وجعل الحجة لهم بالإجماع عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ أَرَادَ إِجْمَاعَ خَيْرِ الْقُرُونِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، فَتِلْكَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَإِنَّهُ لَا تَقْلِيدَ فِيهِمْ أَلْبَتَّةَ، وَلَا عَرَفُوا التَّقْلِيدَ، وَلَا سَمِعُوا بِهِ، بَلْ كَانَ الْمُقَصِّرُ مِنْهُمْ يَسْأَلُ الْعَالِمَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ، فَيُفْتِيهِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالسُّؤَالِ عَنِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَدْ عَرَفْتَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ، لَا بِالرِّوَايَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُوجِبُونَ لِلتَّقْلِيدِ، وَالْمُجَوِّزُونَ لَهُ مِنْ قوله سبحانه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} ٢ إلا السائل عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَا عَنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي عُمُومِ السُّؤَالِ، كَمَا زَعَمُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ، وَهُوَ السُّؤَالُ عَنْ كَوْنِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ رِجَالًا، كَمَا يُفِيدُهُ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا، حَيْثُ قَالَ:


١ وهذا هو المذهب الثاني.
٢ جزء من آيتين الأولى ٤٣ من سورة النحل والثانية ٧ من سورة الأنبياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>