للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا بحجة خفيت عن معلمك، كما لم يقل معلمك إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَنْكَ، فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ، "و"* كَذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نُقِضَ قَوْلُهُ، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ، وَأَقَلُّ عِلْمًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ، وَأَغْزَرُ عِلْمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ١.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ"٢. انْتَهَى.

قلت: تتميمًا لهذا الكلام: وعندما يُنْتَهَى إِلَى الْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الصَّحَابِيُّ أَخَذَ عِلْمَهُ مِنْ أَعْلَمِ الْبَشَرِ، الْمُرْسَلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادِهِ، الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ، الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ إِلَّا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ عُلُومِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِصْمَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ، وَلَا فِعْلَهُ، وَلَا اجْتِهَادَهُ حُجَّةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.

وَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ، إِنَّمَا هُوَ رُخْصَةٌ لَهُ، يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا عِنْدَ فَقْدِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْعَمَلُ بِهَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِهَذَا نَهَى كِبَارُ الْأَئِمَّةِ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ، وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ عَرَفْتَ "مِنْ تَحْقِيقِ"** حَالِ الْمُقَلِّدِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ بِالرَّأْيِ، لَا بِالرِّوَايَةِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَحْضِ الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُطَالِبٍ بِحُجَّةٍ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَأْيَ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّمَسُّكُ بِهِ، وَيَسُوغُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، فِيمَا كَلَّفَهُ اللَّهُ، فَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْمُجْتَهِدَ صَاحِبَ شَرْعٍ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَعْدَ نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتَمَكَّنُ كَامِلٌ وَلَا مُقَصِّرٌ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى هَذَا بِحُجَّةٍ قَطُّ.

وَأَمَّا مُجَرَّدُ الدَّعَاوَى، وَالْمُجَازَفَاتِ فِي شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، وَلَوْ جَازَتِ الْأُمُورُ الشَّرْعِيَّةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، لادَّعى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَقَالَ مَنْ شاء بما شاء.


* في "أ": ثم.
** ما بين قوسين ساقط من "أ".

<<  <  ج: ص:  >  >>