وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} ١ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ، أو حكم نوعه، وأما ما قد فصله وَبُيِّنَ حُكْمُهُ، فَهُوَ كَمَا بَيَّنَهُ بِلَا خِلَافٍ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} ٢ قَالُوا: فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ لَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ فَلَا نَعْلَمُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَصَالَةِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ قَالُوهُ بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ٣، فَلَا تَرُدُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي دَوَاوِينَ الْإِسْلَامِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَالْمُؤْمِنُونَ وقَّافُون عِنْدَ الشُّبْهَاتِ" ٤ الْحَدِيثَ.
قَالَ: فأرشد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَرْكِ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، ولم يجعل الأصل فيها أَحَدَهُمَا.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الْمَنْعُ.
فَإِنِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ فَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" إِلَّا مَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ طَلْقٌ، أَوْ حَرَامٌ وَاضِحٌ، بَلْ تَنَازَعَهُ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى إِلْحَاقِهِ بِالْحَرَامِ، كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَمَّا مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ٥، سَلْمَانَ وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ٦ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام" ٧ الحديث.
* ما بين قوسين ساقط "أ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute