للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إشارةٌ إلى أن أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ هوَ الإمامُ بعدَهُ؛ فإنَّ الإمامَ يَحْتاجُ إلى سكنى المسجدِ والاستطراقِ فيهِ بخلافِ غيرِهِ، وذلكَ مِن مصالحِ المسلمينَ المصلِّينَ في المسجدِ.

ثمَّ أكَّدَ هذا المعنى بأمرِهِ صريحًا أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ أبو بَكْرٍ، فرُوجِعَ في ذلكَ، فغَضِبَ وقالَ: "مُروا أبا بَكْرٍ يُصَلِّي (١) بالنَّاس" (٢). فوَلَّاه إمامةَ الصَّلاةِ دونَ غيرِهِ، وأبْقى استطراقَهُ مِن دارِه إلى مكانِ الصَّلاةِ، وسَدَّ استطراقَ غيرِهِ. وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى استخلافِهِ على الأمَّةِ دونَ غيرِهِ.

ولهذا قالَتِ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم عندَ بيعةِ أبي بَكْر: رَضِيَهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لدينِنا، أفلا نَرْضاهُ لدنيانا؟ ولمَّا قالَ أبو بكْرٍ: قد أقَلْتكُمْ بيعتي. قالَ عَلِيٌّ: لا نَقيلُكَ ولا نَسْتَقيلُكَ، قَدَّمَكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فمَن ذا يُؤَخِّرُكَ (٣)؟!

لمَّا انْطَوى بساطُ النُّبوَّةِ مِن الأرضِ بوفاةِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لمْ يَبْقَ على وجهِ الأرضِ أكملُ مِن درجةِ الصِّدِّيقيَّةِ، وأبو بَكْرٍ رأْسُ الصِّدَيقينَ، فلهذا اسْتَحَقَّ خلافةَ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - والقيامَ مقامَهُ.

وكانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد عَزَمَ على أنْ يَكْتُبَ لِأبي بَكْرٍ كتابًا لئلَّا يُخْتَلَفَ عليهِ، ثمَّ أعْرَضَ عن ذلكَ؛ لعلمِهِ أنَّهُ لا يَقَعُ غيرُهُ، وقالَ: "يَأْبى اللهُ والمؤمنونَ إلَّا أبا بَكْرٍ" (٤). وربَّما كانَ تَرَكَ ذلكَ لئلَّا يَتَوَهَّمَ متوهِّم أن نصَّهُ على خلافتِهِ كانَتْ مكافأةً ليدِهِ التي كانَتْ لهُ. والولاياتُ كلُّها لا يُقْصَدُ بها مصلحةُ المُوَلَّى، بل مصلحةُ المسلمينَ عامَّةً.


(١) في خ: "أن يصلي"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بمصادر التخريج.
(٢) رواه: البخاري (٦٠ - الأنبياء، ١٩ - {لقد كان في يوسف وإخوته}، ٦/ ٤١٧/ ٣٣٨٤ و ٣٣٨٥)، ومسلم (٤ - الصلاة، ٢١ - استخلاف الإمام، ١/ ٣١١/ ٤١٨ و ٤٢٠)؛ عن عائشة وأبي موسى على الترتيب.
(٣) جاء هذا عند: أحمد في "فضائل الصحابة" (١٠١ و ١٠٢ و ١٣٣)، والخلّال في "السنّة" (٣٧٢)، وأبي الشيخ في "الطبقات" (٣/ ٥٧٥)؛ من أوجه ضعيفة، عن أبي الجحّاف داوود بن أبي عوف. فأحسن ما يقال فيه أنّه معضل، وفيه نكارة من جهة أنّه من المستبعد أن يتراجع أبو بكر عن حمل أمانة الأُمّة والاضطلاع بمهمّاتها الثقيلة، ولذلك قال ابن تيميّة: "كذب، ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم".
(٤) رواه: البخاري (٧٥ - المرضى، ١٦ - ما رخّص للمريض، ١٠/ ١٢٣/ ٥٦٦٦)، ومسلم (٤٤ - الصحابة، ١ - فضائل أبي بكر، ٤/ ١٨٥٧/ ٢٣٨٧)؛ من حديث عائشة.

<<  <   >  >>