(٢) تقدّم لك أنّ الذي صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة النصف من شعبان ولم يصحّ عنه غيره أن الله سبحانه يطّلع على عباده تلك الليلة فيغفر لهم جميعًا إلّا مشركًا أو مشاحنًا. وعليه؛ فقد اختصّ سبحانه وتعالى هذه النعمة الجزيلة والهبة الجليلة بأهل التوحيد القويم والقلب السليم ولم يختصّ بها أهل الصيام والقيام وغير ذلك من الصالحات. ومن هنا رأينا النبيّ الكريم الرؤوف الرحيم بالمؤمنين الحريص على دلالتهم على كلّ خير لا يأمرهم بقيام هذه الليلة ولا بصيام نهارها، بل ولا يفعله في نفسه وهو أعلم الناس بمرضاة الربّ تعالى وأحرصهم عليها، وإنّما رأيناه يفعل فيها ما كان يفعله في سائر اليالي. وعلى هذا النهج سار الصحابة الكرام، فلم يصحّ عن واحد منهم أنّه عني بهذه الليلة عناية خاصّة بقيام أو عني بنهارها بصيام. ثمّ جاء بعض الجلّة من التابعين فاستحبّوا قيام هذه الليلة وصيام نهارها، وظلّ السواد الأعظم منهم مستمسكين بمنهج سلفهم من الأصحاب، بل صرّح جماعة منهم بكراهة تخصيص هذه الليلة بصيام وتخصيص نهارها بقيام. ثمّ نبتت نوابت لا يروي ظمأهم إلّا مخالفة السنّة ولا يشفي غليلهم إلّا التقدّم بين يدي الله ورسوله، فتعلّقوا باجتهادات أُولئك الجلّة من التابعين أصحاب الأجر الواحد، ونبذوا ما صحّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام أجمعين والسواد الأعظم من التابعين واتخذوه وراءهم ظهريّا، فكان عاقبة أمرهم أن استحوذ عليهم الشيطان وشغلهم بالصيام والقيام وأنساهم تطهير قلوبهم من علائق الشرك والغلّ والحقد … فلم يلتفتوا إلى ذلك إلّا نادرًا، فكانوا من المحرومين في هذه الليلة العظيمة جزاءً وفاقًا. (٣) لعلّ هذا أضعاف عدد البشر من لدن آدم حتّى قيام الساعة! فالله المستعان على هذه المرويّات التي ما لها خطام ولا زمام.