للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإيمانِ؛ صارَتْ لذَّتُهُ في مصابرةِ نفسِهِ عمَّا تَميلُ نفسُهُ إليهِ إذا كانَ فيهِ سخطُ اللهِ، وربَّما يَرْتَقي إلى أنْ يَكْرَهَ جميعَ ما يَكْرَهُهُ اللهُ منهُ ويَنْفُرَ منهُ وإنْ كانَ ملائمًا للنُّفوسِ، كما قيلَ:

إنْ كانَ رِضاكُمْ في سَهَري … فَسَلامُ اللهِ عَلى وَسَني

وقالَ آخرُ: فَما لِجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ.

وقالَ آخرُ:

عَذابُهُ فيكَ عَذْبُ … وَبُعْدُهُ فيكَ قُرْبُ

وَأنْتَ عِنْدي كَرُوحي … بَلْ أنْتَ مِنْها أحَبُّ

حَسْبي مِنَ الحُبِّ أنِّي … لِما تُحِبُّ أُحِبُّ

* الوجهُ الثَّاني: أن الصِّيامَ سرٌّ بينَ العبدِ وربِّهِ لا يَطَّلعُ عليهِ غيرُهُ؛ لأنَّهُ مركَّبٌ مِن نيَّةٍ باطنةٍ لا يَطَّلعُ عليها إلَّا اللهُ، وتركٍ لتناولِ الشَّهواتِ التي يُسْتَخْفى [بـ]ـتناولِها في العادةِ، ولذلكَ قيلَ: لا تَكْتبهُ الحفظةُ، وقيلَ: إنَّهُ ليسَ فيهِ رياءٌ. كذا قالَهُ الإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُ. وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ مرسلٌ (١).

وهذا الوجهُ اختيارُ أبي عُبَيْدٍ وغيرِهِ. وقد يَرْجِعُ إلى الأوَّلِ؛ فإنَّ مَن تَرَكَ ما تَدْعوهُ نفسُهُ إليهِ للهِ عَزَّ وجَلَّ حيثُ لا يَطَّلعُ عليهِ غيرُ مَن أمَرَهُ ونَهاهُ؛ دَلَّ على صحَّةِ إيمانِهِ. واللهُ تَعالى يُحِبُّ مِن عبادِهِ أنْ يُعامِلوهُ سرًّا بينَهُم وبينَهُ، وأهلُ محبَّتِهِ يُحِبُّونَ أنْ يُعامِلوهُ سرًّا بينَهُم وبينَهُ بحيثُ لا يَطَّلعُ على معاملتِهِم إيَّاهُ سواهُ، حتَّى كانَ بعضُ السَّلفِ يَوَدُّ لو تَمَكَّنَ مِن عبادةٍ لا تَشْعُرُ بها الملائكةُ الحفظةُ. وقالَ بعضُهُم لمَّا اطُّلِعَ على بعضِ سرائرِهِ: إنَّما كانَتْ تَطيبُ الحياةُ لمَّا كانَتِ المعاملةُ بيني وبينَهُ سرًّا، ثمَّ دَعا لنفسه بالموتِ، فماتَ (٢).


(١) أغلب الظنّ أنّه يريد ما جاء في الحديث الإلهي: "الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحبّ لا يطّلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده". وهذا موضوع على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما بيّنته في "مدارج السالكين" (٢/ ١١٦ - ط. ابن خزيمة). فإن أراد غيره فما عرفته.
(٢) إذا ستر العبد الصادق حاله مع الله عن الخلق، فاطّلع بعضهم على شيء من ذلك بغير قصد منه ولا تشوّف؛ فهذا قدر من أقدار من الله يستلزم منه عبوديّة الشكر أو الرضى أو الصبر بحسب مقامه، وهذا =

<<  <   >  >>