* ومنها: أن الصَّائمَ يَدَعُ طعامَهُ وشرابَهُ للهِ، فإذا أعانَ الصَّائمينَ على التَّقوِّي على طعامِهِم وشرابِهِم؛ كانَ بمنزلةِ مَن تَرَكَ شهوةً للهِ تَعالى وآثَرَ بِها أو واسى فيها. ولهذا يُشْرَعُ لهُ تفطيرُ الصُّوَّامِ معَهُ إذا أفْطَرَ؛ لأنَّ الطعامَ يَكونُ محبوبًا لهُ حينئذٍ، فيواسي منهُ حتَّى يَكونَ ممَّن أطْعَمَ الطَّعامَ على حبِّهِ، ويَكونُ في ذلكَ شكرٌ للهِ على نعمةِ إباحةِ الطعامِ والشَّرابِ لهُ وردِّهِ عليهِ بعدَ منعِهِ إيَّاهُ؛ فإنَّ هذهِ النِّعمةَ إنَّما عُرِفَ قدرُها عندَ المنعِ منها. وسُئِلَ بعضُ السَّلفِ: لمَ شُرِعَ الصِّيامُ؟ قالَ: لِيَذوقَ الغنيُّ طعمَ الجوعِ فلا يَنْسى الجائعَ. وهذا مِن بعضِ حكمِ الصَّومِ وفوائدِهِ. وقد ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ حديثَ سَلْمانَ، وفيهِ "وهوَ شهرُ المواساةِ" (١)، فمَن لمْ يَقْدِرْ فيهِ على درجةِ الإيثارِ على نفسِهِ؛ فلا يَعْجِزْ عن درجةِ أهلِ المواساةِ.
كانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ يواسونَ مِن إفطارِهِم أو يُؤْثِرونَ بهِ ويَطْوونَ، وكانَ ابنُ عُمَرَ يَصومُ ولا يُفْطِرُ إلَّا معَ المساكينِ، فإذا مَنَعَهُم أهلُهُ عنهُ؛ لم يَتَعَشَّ تلكَ الليلةَ. وكانَ إذا جاءَهُ سائلٌ وهوَ على طعامِهِ؛ أخَذَ نصيبَهُ مِن الطعامِ وقامَ فأعْطاهُ السَّائلَ، فيَرْجِعُ وقد أكَلَ أهلُهُ ما بَقِيَ في الجفنةِ، فيُصْبِحُ صائمًا ولم يَأْكُلْ شيئًا.
واشْتَهى بعضُ الصَّالحينَ مِن السَّلفِ طعامًا، وكانَ صائمًا، فوُضِعَ بينَ يديهِ عندَ فطرِهِ، فسَمعَ سائلًا يَقولُ: مَن يُقْرِضُ الملِيَّ الوفيَّ الغنيَّ؟ فقالَ: عبدُهُ المعدمُ مِن الحسناتِ. فقامَ فأخَذَ الصَّحفةَ وخَرَجَ بها إليهِ وباتَ طاويًا.
وجاءَ سائلٌ إلى الإمامِ أحْمَدَ، فدَفَعَ إليهِ رغيفينِ كانَ يُعِدُّهُما لفطرِهِ، ثمَّ طَوى وأصْبَحَ صائمًا.
وكانَ الحَسَنُ يُطْعِمُ إخوانَهُ وهوَ صائمٌ تطوُّعًا، ويَجْلِسُ يُرَوِّحُهُم وهُم يَأْكُلونَ.
وكانَ ابنُ المُبارَكِ يُطْعِمُ إخوانَهُ الألوانَ مِن الحلواءِ وغيرِها في السَّفرِ وهوَ صائمٌ.
سلامُ اللهِ على تلكَ الأرواح، رحمةُ اللهِ على تلكَ الأشباح، لم يَبْقَ منهُم إلَّا أخبارٌ وآثار، كم بينَ مَن يَمْنَعُ الحق الواجبَ عليهِ وبينَ أهلِ الإيثار.
(١) (ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص ٣٥٥).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute