للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفجرِ فيَنْزِلُ، فنُصَلِّي ثمَّ نَرْكَبُ، فلمَّا كانَ ذاتُ يومٍ قربَ طلوعِ الشَّمسِ ولم يَقِفوا للنَّاسِ، فنادَيْتُهُم فلم يَلْتَفِتوا إلى ذلكَ، فتَوَضَّأْتُ على المحملِ، ثمَّ نَزَلْتُ للصَّلاةِ على الأرضِ، ووَطَّنْتُ نفسي على المشي إلى وقتِ نزولِهِم للضُّحى، وكانوا لا يَنْزِلونَ إلى قريبِ وقتِ الظُّهرِ، معَ علمي بمشقَّةِ ذلكَ عليَّ وأنِّي لا قدرةَ لي عليهِ، فلمَّا صَلَّيْتُ وقَضَيْتُ صلاتي؛ نَظَرْتُ إلى رفقتي، فإذا هُم وقوفٌ، وقد كانوا لو سُئِلوا ذلكَ لم يَفْعَلوهُ، فسَألْتُهُم عن سببِ وقوفِهِم، فقالوا: لمَّا نَزَلْتَ تَعَرْقَلَتْ مقاوِدُ الجمالِ بعضُها في بعض فنحنُ في تخليصِها إلى الآنَ. قالَ: فجِئْتُ ورَكِبْتُ وحَمِدْتُ الله عَزَّ وجَلَّ وعَلِمْتُ أنَّهُ ما قَدَّمَ أحدٌ حقَّ اللهِ تَعالى على هوى نفسِهِ وراحتِها إلَّا ورَأى سعادةَ الدُّنيا والآخرةِ، ولا عَكَسَ أحدٌ ذلكَ فقَدَّمَ حظَّ نفسِهِ على حقِّ ربِّهِ إلَّا ورَأى الشَّقاوةَ في الدُّنيا والآخرةِ (١). واسْتَشْهَدَ بقولِ القائلِ:

واللهِ ما جِئْتكُمُ زائِرًا … إلَّا وَجَدْتُ الأرْضَ تُطْوى لي

وَلا ثنَيْتُ العَزْمَ عَنْ بابِكُمْ … إلَّا تَعَثَّرْتُ بِأذْيالي

ومِن أعظمِ أنواعِ برِّ الحجِّ كثرةُ ذكرِ اللهِ تَعالى فيهِ. وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بكثرةِ ذكرِهِ في إقامةِ مناسكِ الحجِّ مرَّةً بعدَ أخرى. و [قد] رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أيُّ الحاجِّ أفضلُ؟ قالَ: "أكثرُهُم للهِ ذكرًا" (٢). خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، ورُوِيَ مرسلًا مِن وجوهٍ


(١) أمّا القول؛ فصحيح والله، وأمّا الفعل؛ فلا يخلو من نظر! فإنّ مفارقة الجماعة في الأسفار والقفار مظنّة الأخطار الجسيمة على النفس والمال، وربّما انقطع المرء عن الركب أو ضاع أو هاجمته الوحوش وقطّاع الطرق! فهذه المخاطر وأشباهها من الضرورات التي تبيح الفريضة سائرًا أو راكبًا، ومن بذل وسعه ثمّ ترخص؛ فإنه من المحسنين الذين ما عليهم من سبيل لا من الذين قدّموا هوى أنفسهم وراحتها على حقّ الله تعالى! وليت شعري! إذا كنّا نأبى أن نترخّص في مثل هذه الضرورات؟ فمتى نترخّص؟! متى نتمثّل قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه"؟! متى نشعر أنّ هذا الدين دين رحمة، أنزله رحمن رحيم بعباده، وجعله صالحًا لكل زمان ومكان وإنسان؟!
(٢) (ضعيف). رواه: أحمد (٣/ ٤٣٨)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص ٢٩٨)، والطبراني (٢٠/ ١٨٦ / ٤٠٧)؛ من طريق ابن لهيعة، عن زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه … رفعه. قال الهيثمي (١٠/ ٧٧): "فيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وثّق، وكذلك ابن لهيعة". قلت: فهاتان علّتان: أولاهما: تخليط ابن لهيعة، مع كون الرواة عنه هنا من المتأخّرين بعد التخليط. نعم؛ تابعه رشدين بن سعد عند الرافعي في "قزوين" (٣/ ٣٧٢)، لكنّ رشدين ضعيف، والراوي عنه منصور بن مجاهد كذاب يضع،=

<<  <   >  >>