للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَغِبَ عن سنَّتي؛ فليسَ منِّي" (١).

وسببُ هذا أنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ ابنَ آدَمَ محتاجًا إلى ما يَقومُ بهِ بدنُهُ مِن مأْكلٍ ومشربٍ ومنكحٍ وملبسٍ، وأباحَ لهُ مِن ذلكَ كلِّهِ ما هوَ طيِّبٌ حلالٌ تَقوى بهِ النَّفسُ ويَصِحُّ بهِ الجسدُ ويَتَعاوَنانِ على طاعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وحَرَّمَ مِن ذلكَ ما هوَ ضارٌّ خبيثٌ يوجِبُ للنَّفسِ طغيانَها وعماها وقسوتَها وغفلتَها وأشرَها وبطرَها، فمَن أطاعَ نفسَهُ في تناولِ ما تَشْتَهيهِ ممَّا حَرَّمَهُ اللهُ عليهِ؛ فقد تَعَدَّى وطَغى وظَلَمَ نفسَهُ، ومَن مَنَعَها حقَّها مِن المباحِ حتَّى تَضَرَّرَتْ بذلكَ؛ فقد ظَلَمَها ومَنَعَها حقَّها، فإنْ كانَ ذلكَ سببًا لضعفِها وعجزِها عن أداءِ شيءٍ مِن فرائضِ اللهِ عليهِ ومِن حقوقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ أو حقوقِ عبادِهِ؛ كانَ بذلكَ عاصيًا، وإنْ كانَ ذلكَ سببًا للعجزِ عن نوافلَ هيَ أفضلُ ممَّا فَعَلَهُ؛ كانَ بذاكَ مفرِّطًا مغبونًا خاسرًا.

وقد كانَ رجلٌ في زمنِ التَّابعينَ يَصومُ ويُواصِلُ حتَّى يَعْجِزَ عنِ القيامِ، فكانَ يُصَلِّي الفرضَ جالسًا، فأنْكَروا ذلكَ عليهِ، حتَّى قالَ عَمْرُو بنُ مَيْمونٍ: لو أدْرَكَ هذا أصحابُ مُحَمَّدٍ لَرَجَموهُ.

وكانَ ابنُ مَسْعودٍ يُقِلُّ الصِّيامَ ويَقولُ: إنَّهُ يُضْعِفُني عن قراءةِ القرآنِ، وقراءةُ القرآنِ أحبُّ إليَّ.

وأحْرَمَ رجلٌ مِن الكوفةِ، فقَدِمَ مَكَّةَ وقد أصابَهُ الجهدُ، فرَآهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهوَ سيِّئُ الهيئةِ، فأخَذَ عُمَرُ بيدِهِ وجَعَلَ يَدورُ بهِ الحلقَ ويَقولُ للنَّاسِ: انْظُروا إلى ما يَصْنَعُ هذا بنفسِهِ وقد وَسَّعَ اللهُ عليهِ!

فمَن تَّكَلَّفَ مِن التَّطوُّعِ ما يَتَضَرَّرُ بهِ في جسمِهِ كما فَعَلَ هذا الباهِلِيُّ، أو مَنَعَ بهِ حقًّا واجبًا عليهِ كما فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ وغيرُهُ ممَّن عَزَمَ على تركِ المباحاتِ في عهدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّهُ يُنْهى عن ذلكَ. ومنِ احْتَمَلَ بدنُهُ ذلكَ ولم يَمْنَعْهُ مِن حقٍّ واجبٍ عليهِ؛ لم يُنْهَ عن ذلكَ إلَّا أنْ يَمْنَعَهُ عمَّا هوَ أفضلُ مِن ذلكَ مِن النَّوافلِ؛ فإنَّهُ


(١) متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص ٢٩٥).

<<  <   >  >>