للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا كلُّهُ يُبَيِّنُ أن السَّماواتِ والأرضَ خُلِقَتْ مِن الماءِ.

والخلافُ في أنَّ الماءَ هل هوَ أوَّلُ المخلوقاتِ أم لا مشهورٌ: وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ على أن الماءَ مادَّةُ جميعِ المخلوقاتِ. وقد دَلَّ القرآنُ على أن الماءَ مادَّةُ جميعِ الحيواناتِ: قالَ تَعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: ٣٠]، وقالَ تَعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: ٤٥].

وقولُ مَن قالَ: إنَّ المرادَ بالماءِ النُّطفةُ التي يُخْلَقُ منها الحيواناتُ بعيدٌ؛ لوجهينِ:

أحدُهُما: أن النُّطفةَ لا تُسَمَّى ماءً مطلقًا بل مقيَّدًا: كقولهِ تَعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: ٦ - ٧]، وقولِهِ تَعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: ٢٠].

والثَّاني: أن مِن الحيواناتِ ما يَتَوَلَّدُ مِن غيرِ نطفةٍ، كدودِ الخلِّ والفاكهةِ ونحوِ ذلكَ، فليسَ كل حيوانٍ مخلوقًا مِن نطفةٍ (١)، والقرآنُ دَلَّ على خلقِ جميعِ ما يَدُبُّ وما فيهِ حياةٌ مِن ماءٍ، فعُلِمَ بذلكَ أن أصلَ جميعِها الماءُ المطلقُ (٢).

ولا يُنافي هذا قولُهُ تَعالى {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: ٢٧] وقولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "خُلِقَتِ الملائكةُ مِن نورٍ" (٣)؛ فإن حديثَ أبي هُرَيْرَةَ دَلَّ على أن أصلَ النُّورِ والنَّارِ الماءُ، كما أن أصلَ التُّرابِ الذي خُلِقَ منهُ آدَمُ الماءُ؛ فإنَّ آدَمَ خُلِقَ مِن طينٍ، والطِّينُ ترابٌ مختلطٌ بماءٍ، والترابُ خُلِقَ مِن الماءِ، كما تَقَدَّمَ عن ابن عَبَّاسٍ وغيرِهِ (٤).


(١) فيه نظر! والكيمياء الحيويّة الجريئيّة المعاصرة تؤكد وقوع التكاثر الجنسي في جميع الكائنات الحيّة الحيوانيّة والنباتية، ودود الخلّ والفاكهة وغيره ممّا هو فوقه أو دونه خاضع لهذه العمومية.
(٢) ويمكن أن يضاف هاهنا أيضًا أن لفظة "ماء" إذا أطلقت فإنما تنصرف إلى الماء الذي يسقط من السماء وتجري به الينابيع والأنهار، والأصل أن لا يصرف اللفظ عن ظاهره إلّا بقرينة، ولا قرينة. ثمّ هذه النطفة؛ أليست ماء؟! ألا تسبح في الماء؟!
(٣) رواه مسلم (٥٣ - الزهد، ١٠ - أحاديث متفرّقة، ٤/ ٢٢٩٤/ ٢٩٩٦) من حديث عائشة.
(٤) ويشهد له حديثًا أبي هريرة وابن عمرو الصحيحان اللذان تقدّما آنفًا.

<<  <   >  >>