للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويَشْكُرونَهُ على فضلِهِ. ونُهُوا عن صيامِها؛ لأنَّ الكريمَ لا يَليقُ بهِ أنْ يُجيعَ أضيافَهُ، فكأنَّهُ قيلَ للمؤمنينَ في هذهِ الأيَّامِ: قد فَرَغَ عملُكُمُ الذي عَمِلْتُموهُ، فما بَقِيَ لكُم إلَّا الرَّاحةُ، فهذهِ الرَّاحةُ بذلكَ التَّعبِ، كما أُريحَ الصَّائمونَ للهِ شهرَ رمضانَ بأمرِهِم بإفطارِ يومِ عيدِ الفطرِ.

• ويُؤْخَذُ مِن هذا إشارةٌ إلى حالِ المؤمنِ في الدُّنيا؛ فإن الدُّنيا كلَّها أيَّامُ سفرٍ كأيامِ الحجِّ، وهيَ زمانُ إحرامِ المؤمنينَ عمَّا حَرَّمَ اللهُ عليهِم مِن الشَّهواتِ، فمَن صَبَرَ في مدَّةِ سفرِهِ على إحرامِهِ وكَفَّ عن الهوى، فإذا انْتَهى سفرُ عمرِهِ ووَصَلَ إلى منى المُنى فقد قَضى تفثَهُ ووَفَّى نذرَهُ، فصارَتْ أيَّامُهُ كلُّها كأيَّامِ منى أيَّامَ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وصارَ في ضيافةِ اللهِ في جوارِهِ أبدَ الأبدِ. ولهذا يُقالُ لأهلِ الجنَّةِ: {كُلوا وَاشْرَبوا هَنيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلونَ} [الطور: ١٩]، {كُلوا وَاشْرَبوا هَنيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الخالِيةِ} [الحاقَّة: ٢٤]. وقد قيلَ: إنَّها نَزَلَتْ في الصُّوَّامِ في الدُّنيا.

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها … وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

قالَ بعضُ السَّلفِ: صُمِ الدُّنيا ولْيَكُنْ فطرُكَ الموتَ.

فَصُمْ يَوْمَكَ الأدْنى لَعَلَّكَ في غَدٍ … تَفوزُ بِعيدِ الفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ

مَن صامَ اليومَ عن شهواتِه؛ أفْطَرَ عليها غدًا بعدَ وفاتِه، ومَن تَعَجَّلَ ما حُرِّمَ عليهِ مِن لذَّاتِه؛ عوقِبَ بحرمانِ نصيبِهِ مِن الجنَّةِ وفواتِه. شاهدُ ذلكَ: "مَن شَرِبَ الخمرَ في الدُّنيا لمْ يَشْرَبْها في الآخرةِ" (١)، و"مَن لَبِسَ الحريرَ في الدُّنيا لمْ يَلْبَسْهُ في الآخرةِ" (٢).

أنْتَ في دارِ شَتاتٍ … فَتَأهَّبْ لِشَتاتِكْ

وَاجْعَلِ الدُّنْيا كَيَوْمٍ … صُمْتَهُ عَنْ شَهَواتِكْ

وَلْيَكُنْ فِطْرُكَ عِنْدَ الـ … ـــــلهِ فسي يَوْمِ وَفاتِكْ


(١) رواه: البخاري (٧٤ - الأشربة، ١ - قوله تعالى إنّما الخمر والميسر، ١٠/ ٣٠/ ٥٥٧٥)، ومسلم (٣٦ - الأشربة، ٧ - كل مسكر خمر، ٣/ ١٥٨٧/ ٢٠٠٣) من حديث ابن عمر.
(٢) رواه: البخاري (٧٧ - اللباس، ٢٥ - لبس الحرير، ١٠/ ٢٨٤/ ٥٨٣٠)، ومسلم (٣٧ - اللباس، ٢ - تحريم استعمال إناء الذهب، ٣/ ٢٠٦٩/١٦٤١)؛ من حديث عمر.

<<  <   >  >>