للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا، قد قيلَ: إنَّهُ يَدْخُلُ فيهِ تمنِّيه للشَّوقِ إلى لقاءِ اللهِ، وفيهِ نظرٌ؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد تَمَنَّاهُ في تلكَ الحالِ (١).

• واخْتَلَفَ السَّالكونَ: أيُّما أفضلُ؛ مَن تَمَنَّى الموتَ شوقًا إلى لقاءِ اللهِ، أو مَن تَمَنَّى الحياةَ رغبةً في طاعةِ اللهِ، أو مَن فَوَّضَ الأمرَ إلى اللهِ ورَضِيَ باختيارِهِ لهُ ولم يَخْتَرْ لنفسِهِ شيئًا؟

واسْتَدَلَّ طائفةٌ مِن الصَّحابةِ على تفضيلِ الموتِ على الحياةِ بقولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: ١٩٨] (٢).

ولكنَّ الأحاديثَ الصَّحيحةَ تَدُلُّ على أنَّ عمرَ المؤمنِ كلَّما طالَ ازْدادَ بذلكَ ما لَهُ عندَ اللهِ مِن الخيرِ، فلا يَنْبَغي لهُ أنْ يَتَمَنَّى انقطاعَ ذلكَ، اللهمَّ! إلَّا أنْ يَخْشى الفتنةَ على دينِهِ؛ فإنَّهُ إذا خَشِيَ الفتنةَ على دينِهِ؛ فقد خَشِيَ أنْ يَفوتَهُ ما عندَ اللهِ مِن الخيرِ ويَتَبَدَّلَ ذلكَ بالشَّرِّ، عياذًا باللهِ مِن ذلكَ، والموتُ خيرٌ مِن الحياةِ على هذهِ الحالِ.

قالَ مَيْمونُ بنُ مِهْرانَ: لا خيرَ في الحياةِ إلَّا لتائبٍ أو رجلٍ يَعْمَلُ في الدَّرجاتِ. يَعْني: أن التَّائبَ يَمْحو بالتَّوبةِ ما سَلَفَ مِن السَّيِّئاتِ، والعاملُ يَجْتَهِدُ في علوِّ الدَّرجاتِ، ومَن عداهُما فهوَ خاسرٌ.

كما قالَ تَعالى: {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: ١ - ٣]. فأقْسَمَ اللهُ تَعالى أن كلَّ الإنسانِ خاسرٌ إلَّا مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الأوصافِ الأربعةِ: الإيمانِ، والعملِ الصَّالحِ، والتَّواصي بالحقِّ، والتَّواصي بالصَّبرِ على الحقِّ. فهذهِ السُّورةُ ميزانٌ [لـ]ـلأعمالِ، يَزِنُ المؤمنُ بها نفسَهُ فيَتَبَيَّنُ لهُ بها ربحُهُ مِن خسرانِهِ، ولهذا قالَ الشَّافِعِيُّ: لو فَكَّرَ النَّاسُ


(١) أين تمنّي الموت في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسألك لذّة النظر إلى وجهك وشوقًا إلى لقائك"؟! وإن قال الرجل: اللهمّ! أسألك الجنّة؛ فهل يعدّ هذا تمنّيًا للموت؟! كيف وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء نفسه: "اللهمّ! أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"؟!
(٢) لا ريب أنّ ما عند الله خير للعبد المؤمن ممّا له في الدنيا مهما عظم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نفس مسلمة، لها عند الله خير، يقبضها ربّها، ثمّ تحبّ أن ترجع إليكم"، لكنّ هذا شيء وتمنّي الموت شيء آخر. فتنبّه ولا تخلط بين الأمرين.

<<  <   >  >>