للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانَ بعضُهُم إذا رَجَعَ مِن الجمعةِ في حرِّ الطهيرةِ تَذَكَّرَ أنصرافَ النَّاسِ مِن موقفِ الحسابِ إلى الجنَّةِ أوِ النَّارِ. فإنَّ السَّاعةَ تَقومُ يومَ الجمعةِ، ولا يَنْتَصِفُ ذلكَ النَّهارُ حتَّى يَقيلَ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ في النَّارِ. قالَهُ ابنُ مَسْعودٍ، وتَلا قولَهُ تَعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: ٢٤].

ويَنْبَغي لمَن كانَ في حرِّ الشَّمسِ أنْ يَتَذَكَّرَ حرَّها في الموقفِ؛ فإنَّ الشَّمسَ تَدْنو مِن رؤوسِ العبادِ يومَ القيامةِ ويُزادُ في حرِّها.

وكذا يَنْبَغي لمَن لا يَصْبِرُ على حرِّ الشَّمسِ في الدُّنيا أنْ يَجْتَنِبَ مِن الأعمالِ ما يَسْتَوْجِبُ صاحبُهُ بهِ دخولَ النَّارِ، فإنَّهُ لا قوَّةَ لأحدٍ عليها ولا صبرَ.

قالَ قَتادَةُ وقد ذَكَرَ شرابَ أهلِ جهنَّمَ، وهوَ ما يَسيلُ مِن صديدِهِم مِن الجلدِ (١) واللحمِ، فقالَ: هل لكُم بهذا يَدانِ أم لكُم عليهِ صبرٌ؟ طاعةُ اللهِ أهونُ عليكُم يا قومِ! فأطيعوا الله ورسولَهُ.

نَسِيتَ لَظًى عِنْدَ ارْتِكابِكَ لِلْهَوى … وَأنْتَ تَوَقَّى حَرَّ شَمْسِ الهواجِرِ

كَأنَّكَ لَمْ تَدْفِنْ حَميمًا وَلَمْ تَكُنْ … لَهُ في سِياقِ المَوْتِ يَوْمًا بِحاضِرِ

رَأى عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ قومًا في جنازةٍ، وقد هَرَبوا مِن الشَّمسِ إلى الظِّلِّ، وتَوَقَّوُا الغبارَ، [فبَكى ثمَّ] أنْشَدَ:

مَن كانَ حينَ تُصيبُ الشَمْسُ جَبْهَتَهُ … أوِ الغُبارُ يَخافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثا

وَيَأْلَفُ الظِّل كَيْ تَبْقى بَشاشَتُهُ … فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا راغِمًا جَدَثا

في ظِلِّ مُقْفِرَةٍ غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ … يُطيلُ تَحْتَ الثَّرى في غَمِّهِ اللَبَثا

تَجَهَّزي بِجَهازٍ تَبْلُغينَ بِهِ … يا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدى لَمْ تُخْلَقي عَبَثا

وممَّا يُضاعَفُ ثوابُهُ في شدَّةِ الحرِّ الصِّيامُ؛ لما فيهِ مِن ظمإ الهواجرِ.

ولهذا كانَ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ يَتَأسَّفُ عندَ موتهِ على ما يَفوتُهُ مِن ظمإ الهواجرِ. وكذلكَ غيرُهُ مِن السَّلفِ.


(١) في خ و ن: "بين الجلد"! والصواب ما أثبتّه من من و ط.

<<  <   >  >>