[٣] وقد عَذَّبَ اللهُ قومَ شُعَيْبٍ بالظُّلَّةِ، رُوِيَ أنَّهُ أصابَهُم حرٌّ أخَذَ بأنفاسِهِم، فخَرجوا مِن البيوتِ إلى الصَّحراءِ، فأظَلَّتْهُم سحابةٌ، فوَجَدوا لها بردًا، فاجْتَمَعوا تحتَها كلُّهُم، فأمْطَرَتْ عليهِم نارًا، فأحْرَقَتْهُم كلَّهُم (١).
فكلُّ هذهِ العقوباتِ بسببِ المعاصي، وهىَ مِن مقدِّماتِ عقوباتِ جهنَّمَ وأنموذجِها.
[٤] وممَّا يَدُلُّ على الجنَّةِ والنَّارِ أيضًا ما يُعَجِّلُهُ اللهُ في الدُّنيا لأهلِ طاعتِهِ وأهلِ معصيتِهِ.
فإنَّ الله يُعَجِّلُ لأوليائِهِ وأهلِ طاعتِهِ مِن نفحاتِ نعيمِ الجنَّةِ ورَوْحِها ما يَجِدونَهُ ويَشْهَدونَهُ بقلوبِهم ممَّا لا تُحيطُ بهِ عبارةٌ ولا تَحْصُرُهُ إشارةٌ:
حتَّى قالَ بعضُهُم: إنَّهُ لتَمُرُّ بي أوقاتٌ أقولُ: إنْ كانَ أهلُ الجنَّةِ في مثلِ ما أنا فيهِ؛ فإنَّهُم في عيشٍ طيِّبٍ.
وقالَ أبو سُلَيْمانَ: أهلُ الليلِ في ليلِهِم ألذُّ مِن أهلِ اللهوِ في لهوِهِم.
وقالَ بعضُهُم: الرِّضى بابُ اللهِ الأعظمُ وجنَّةُ الدُّنيا ومستراحُ العابدينَ.
قالَ تَعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: ٩٧]. قال الحَسَنُ: يَعْني: نَرْزُقُهُ طاعةً يَجِدُ لذَّتَها في قلبِهِ.
أهلُ التَّقوى في نعيمٍ حيثُ كانوا في الدُّنيا وفي البرزخِ وفي الآخرةِ.
العَيْشُ عَيْشُهُمُ وَالمُلْكُ مُلْكُهُمُ … ما النَّاسُ إلَّا هُمُ بانوا أوِ اقْتَرَبوا
وأمَّا أهلُ المعاصي والمعرضونَ عن اللهِ؛ فإنَّ الله يُعَجِّلُ لهُم في الدُّنيا مِن أنموذجِ عقوباتِ جهنَّمَ ما يُعْرَفُ أيضًا بالتَّجربةِ والذَّوقِ، فلا تَسْألْ عمَّا هُم فيهِ مِن ضيقِ الصَّدرِ والحرجِ والنَّكدِ، وعمَّا يُعَجَّلُ لهُم مِن عقوباتِ المعاصي في الدُّنيا ولو بعدَ حينٍ مِن زمنِ العصيانِ. وهذا مِن نفحاتِ الجحيمِ المعجَّلةِ لهُم. ثمَّ يَنْتَقِلونَ بعدَ هذهِ الدَّارِ إلى أشدَّ مِن ذلكَ وأضيقَ، ولذلكَ يَضيقُ على أحدِهِم قبرُهُ حتَّى تَخْتَلِفَ فيهِ أضلاعُهُ
(١) انظر تفاصيل القصّة في "الدرّ المنثور" (الشعراء: ١٨٩).